الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ (زاد) الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ يُسْعِدُ (يعد) بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ (محطّ) فِي الاَْرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَالاَْمْرُ مَقَادِيرَهُ، وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، أَمَادَ (أمار) السَّمَاءَ وَفَطَرَهَا، وَأَرَجَّ الاَْرْضَ وَأَرْجَفَهَا، وَقَلَعَ جِبَالَهَا وَنَسَفَهَا، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ. وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهِمْ وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِما يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الاَْعْمَالِ وَخَبَايَا الاَْفْعَالِ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: أَنْعَمَ عَلَى هؤُلاَءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ. فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَ تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الاَْفْزَاعُ، وَلاَ تَنَالُهُمُ الاَْسْقَامُ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الاَْخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ الاَْسْفَارُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَار، وَغَلَّ الاَْيْدِيَ إِلَى الاَْعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالاَْقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ، وَمُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ، فِي عَذَاب قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَاب قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ، فِي نَار لَهَا كَلَبٌ وَلَجَبٌ (جلب)، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِيفٌ هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَلاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ (تقصم) كُبُولُهَا.
لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى.
ومنها في ذكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا، وَأَهْوَنَ بِهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ