ههنا باعث ومحرّك [1] آخر (وراء الغريزة التي تقدّم ذكرها) إلى السعي في تحقيق الأشياء بالبحث عن وجودها وعللها وهي حاجة العلوم الطبيعية والرياضية وما ضاهاها، إلى العلم بأنّ لموضوعاتها وجوداً وتحقّقاً خارجياً،قبل البحث عن العوارض التي تعرض تلك الموضوعات، ولا يتأتّى للباحث إثبات الوجود لتلك الموضوعات إلاّ في فن آخر غير تلك العلوم.
توضيحه: أنّ العلوم المادّية التي يعدّها الإنسان دعائم حياته إنّما تبحث عن عوارض وأحكام تعرض لموضوعات خاصة، فالطبيعي مثلاً يبحث عن أحكام الجسم الطبيعي، والرياضي يبحث عن أحكام المقدار وقس على ذلك سائر العلوم.
والذي يهم الباحث في أبحاثه واتجاهاته العلمية في هذه العلوم هو الحكم ببركة البرهان أو التجربة بأنّ هذه الموضوعات تعرضها هذه الأحكام
[1]مختصر القول: إنّ الإنسان يحتاج إلى البحث عن الفلسفة لأمرين:
(الأوّل): إثارة الغريزة العلمية فكرة الإنسان إلى معرفة الحقائق وتمييز ما لا واقعية له عمّـا له واقعية، ولا يحصل ذلك إلاّ بالأُصول الفلسفية.
(الثاني): توقّف البحث عن عوارض الشيء على ثبوت نفس الشيء، فإنّ العلوم تبحث عن عوارض موضوع على فرض ثبوت وجوده، والمتكفّل لإثبات وجود الموضوع الذي فرض وجوده عند البحث عن عوارضه إنّما هو الفلسفة، وعلى هذا فالعلوم كلّها محتاجة إليها في إثبات وجود موضوعاتها.