______________________________
-
خطّ الشيخ أحمد الفراهاني رحمه اللّه عن عنوان البصريّ- و كان شيخا كبيرا قد أتى
عليه أربع و تسعون سنة- قال: كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا قدم جعفر
الصادق عليه السّلام المدينة، اختلفت إليه و أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك.
فقال لي يوما: إنّي رجل مطلوب و مع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل و
النهار، فلا تشغلني عن وردي، و خذ عن مالك، و اختلف إليه كما كنت تختلف إليه؛
فاغتممت من ذلك، و خرجت من عنده و قلت في نفسي: لو تفرّس فيّ خيرا لما زجرني عن
الاختلاف إليه و الأخذ عنه، فدخلت مسجد الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّمت
عليه، ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة و صلّيت فيها ركعتين، و قلت أسألك يا اللّه يا
اللّه! أن تعطف عليّ قلب جعفر و ترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. و
رجعت إلى داري مغتمّا و لم أختلف إلى مالك بن أنس لما أشرب قلبي من حبّ جعفر، فما
خرجت من داري إلّا إلى الصلاة المكتوبة حتّى عيل صبري، فلمّا ضاق صدري تنعّلت و
تردّيت و قصدت جعفرا و كان بعد ما صلّيت العصر، فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه
فخرج خادم له فقال ما حاجتك؟
فقلت: السلام على
الشريف، فقال: هو قائم في مصلاه، فجلست بحذاء بابه فما لبثت إلّا يسيرا إذ خرج
خادم فقال: ادخل على بركة اللّه، فدخلت و سلّمت عليه، فردّ السلام و قال: اجلس غفر
اللّه لك، فجلست فأطرق مليّا، ثمّ رفع رأسه، و قال: أبو من؟ قلت: أبو عبد اللّه،
قال: ثبّت اللّه كنيتك و وفّقك، يا أبا عبد اللّه ما مسألتك؟
فقلت في نفسي: لو لم
يكن لي من زيارته و التسليم غير هذا الدعاء لكان كثيرا. ثمّ رفع رأسه، ثمّ قال:
ما مسألتك؟ فقلت: سألت
اللّه أن يعطف قلبك عليّ و يرزقني من علمك، و أرجو أنّ اللّه تعالى أجابني في
الشريف ما سألته، فقال: يا أبا عبد اللّه! ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع
في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك
حقيقة العبوديّة، و اطلب العلم باستعماله، و استفهم اللّه يفهمك، قلت: يا شريف!
فقال: قل يا أبا عبد اللّه. قلت: يا أبا عبد اللّه! ما حقيقة العبوديّة؟ قال:
ثلاثة أشياء:
أن لا يرى العبد لنفسه
فيما خوّله اللّه ملكا؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال اللّه يضعونه
حيث أمرهم اللّه به، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا، و جملة اشتغاله فيما أمره
تعالى به و نهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى ملكا هان
عليه الإنفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه، و إذا فوّض العبد تدبير نفسه على
مدبّره هان عليه مصائب الدنيا، و إذا اشتغل العبد بما أمره اللّه تعالى و نهاه لا
يتفرّغ منهما إلى المراء و المباهلة مع الناس، فإذا أكرم اللّه العبد بهذه الثلاثة
هان عليه الدنيا، و إبليس، و الخلق؛ و لا يطلب الدنيا تكاثرا و تفاخرا، و لا يطلب
ما عند الناس عزّا و علوّا، و لا يدع أيّامه باطلا، فهذا أوّل درجة التقى، قال
اللّه تبارك و تعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» [سورة القصص
(28): 83].
قلت: يا أبا عبد
اللّه! أوصني، قال: أوصيك بتسعة أشياء فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى اللّه
تعالى، و اللّه أسأل أن يوفقك لاستعماله، ثلاثة منها في رياضة النفس، و ثلاثة منها
في الحلم، و ثلاثة منها في العلم، فاحفظها و إيّاك و التهاون بها. قال عنوان:
ففرّغت قلبي له.
فقال: أمّا اللواتي في
الرياضة: فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنّه يورث الحماقة و البله، و لا تأكل إلّا
عند الجوع، و إذا أكلت فكل حلالا و سمّ اللّه، و اذكر حديث الرّسول صلّى اللّه
عليه و آله: ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه. فإن كان و لا بدّ فثلث لطعامه و ثلث
لشرابه و ثلث لنفسه.-
نام کتاب : منية المريد نویسنده : الشهيد الثاني جلد : 1 صفحه : 149