و كيف كان
فقوله (آثروا عاجلا و أخّروا آجلا) أراد به أنّهم
اختاروا الدّنيا على الآخرة و قدّموها عليها و أخّروها عنها و ذلك لكون شهواتها
حاضرة معجّلة و لذاتها غائبة مؤجّلة استعاره مرشحة (و تركوا صافيا و
شربوا آجنا) أى تركوا اللّذات الاخرويّة الصّافية من الكدورات و العلائق
البدنيّة، و استلذّوا باللذات الدّنيوية المشوبة بالآلام و الاسقام فاستعار لفظ
الآجن للذّاتها و الجامع عدم السّوغ أو عدم الصّفاء فيها كما أنّ الماء المتغيّر
الطّعم و اللّون لا يسوغ و لا يصفى و ذكر الشّرب ترشيح.
(كأنّي
أنظر إلى فاسقهم) قال الشارح البحراني: يحتمل أن يريد فاسقا معيّنا كعبد الملك بن
مروان، و يكون الضّمير عائد إلى بني اميّة و من تابعهم، و يحتمل أن يكون مطلق
الفاسق أى من يفسق من هؤلاء فيما بعده و يكون بالصّفات الّتي أشار إليها بقوله (و قد صحب
المنكر فألفه) أي أخذه الفا له (و بسأبه و وافقه) أى استأنس به و وجده
موافقا لطبعه كنايه (حتّى شابت عليه مفارقه) و هو كناية عن طول
عهده بالمنكر إلى أن بلغ عمره غايته، لأنّ شيب المفارق عبارة عن بياضها و هو إنّما
يكون إذا بلغ الشّيوخيّة و لتأخر شيب المفرق عن شيب الصّدغ و تأكّد دلالته على طول
العهد خصّصه بالذّكر استعاره (و صبغت به خلائقه) أى صارت طبائعه
مصبوغة ملوّنة بالمنكر أى صار المنكر خلقا له و سجيّة، فاستعار لفظ الصبغ لرسوخ
المنكر في جبلته لشدّة ملازمته له.
استعاره
مرشحة (ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار) شبّهه بالبحر
الموّاج و رشح التشبيه بذكر لفظ الازباد و وجه الشبه أنّه عند الغضب لا يبالى بما
يفعله فى النّاس من المنكرات كما (لا يبالي) البحر ب (ما غرق) تشبيه و
شبّهه اخرى بالنّار المضرمة الملتهبة فقال (أو كوقع النّار في الهشيم) يعني أنّ
حركاته في الظّلامات مثل وقع النّار في النّبت اليابس و الدّقاق من الحطب و وجه
الشّبّه أنّه (لا يحفل) و لا يبالي بظلمه