عظمت الدّنيا في عينه) و راقه زبرجها (و كبر موقعها من قلبه) و عظم محلّها عنده للذّاتها العاجلة و شهواتها الموجودة الحاضرة (آثرها على اللّه) و اختارها على ما لديه ممّا
لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر لكونه آجلا غايبا (فانقطع إليها و صار عبدا لها) و
لمن في يديه شيء منها حيثما زالت زال إليها و حيثما أقبلت أقبل عليها، غافلا عن
أنّه ظلّ زائل، و ضوء آفل، و سناد مائل، و غرور حائل.
و لمّا وصف
حال أبناء الدّنيا المفتونين بها عقّبه بأمرهم بالتّأسّي برسول اللّه 6 المعرض عنها لما رأى من فنائها و زوالها و مخازيها و معايبها
تزهيدا لهم عنها، و تنبيها على خطائهم في الافتتان بها فقال (و لقد كان في
رسول اللّه 6 كاف لك في الاسوة) أى في القدوة و
الاتّباع (و دليل لك على ذمّ الدّنيا و كثرة مخازيها) أى مهالكها و
مقابحها و فضايحها (و مساويها) أى معايبها.
و أشار إلى
دليل الذّم بقوله (إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت) أى هيّأت (لغيره
أكنافها) و جوانبها و (فطم من رضاعها) و التقم غيره ضرعها (و زوى) أي نحىّ (عن
زخارفها) و قرّب إلى غيره زبرجها.
و دلالة هذه
الجملة على ذمّها و عيبها أنّه لو كان لها وقع عنده سبحانه و لها كرامة لديه لم
يضن بها على أحبّ خلقه إليه و أشرفهم و أكرمهم عنده، فحيث زويها عنه و بسطها لغيره
دلّ ذلك على خسّتها و حقارتها و هوانها و إلى ذلك يشير ما في الحديث: ما زوى اللّه
عن المؤمن في هذه الدّنيا خير ممّا عجّل له فيها.
قال بعض
شرّاح الحديث: أى ما نحّى من الخير و الفضل، و تصديق ذلك انّ الرّجل منهم يوم
القيامة يقول: يا ربّ إنّ أهل الدّنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النّساء و لبسوا
الثّياب اللّينة و أكلوا الطّعام و سكنوا الدّور و ركبوا المشهور من الدّواب
فأعطني مثل ما أعطيتهم، فيقول اللّه تبارك و تعالى: و لكلّ عبد منكم ما أعطيت أهل
الدّنيا منذ كانت الدّنيا إلى أن انقضت سبعون ضعفا.