إلى ما سبق: إنّ الحمد سواء كان عبارة عن
التعظيم و الثّناء المطلق، أو عن الشكر المستلزم لتقدّم النّعمة و الاعتراف بها،
فالمستحقّ له في الحقيقة ليس إلّا اللَّه سبحانه، و لذا أتى بتعريف الجنس و لام
الاختصاص الدّالين على أنّ طبيعة الحمد مختصّة به تعالى.
أمّا على
أنّه عبارة عن مطلق الثّناء و التّعظيم فلظهور أنّ استحقا قيّتهما إنّما يتحقّق
لأجل حصول كمال أو برائة نقص، و كلّ كمال و جمال يوجد في العالم فانما هو رشح و
تبع لجماله و كماله، و أما البراءة عن النقائص و العيوب فممّا يختص به تعالى،
لأنّه وجود محض لا يخالطه عدم و نور صرف لا يشوبه ظلمة.
و أما على
أنه عبارة عن الشكر المسبوق بالنعمة فلأنّ كلّ منعم دونه فانما ينعم بشيء ممّا
أنعم اللَّه، و مع ذلك فانما ينعم لأجل غرض من جلب منفعة أو دفع مضرّة أو طلب
محمّدة، فهذا الجود و الانعام في الحقيقة معاملة و تجارة و إن عدّ في العرف جودا و
انعاما، و أما الحقّ تعالى فلما لم يكن إنعامه لغرض و لا جوده لعوض إذ ليس لفعله
المطلق غاية إلّا ذاته كما مرّ تحقيقه في شرح الخطبة الخامسة و الستين، فلا يستحقّ
لأقسام الحمد و الشكر بالحقيقة إلّا هو، هذا و أردف الحمد بجملة من أوصاف الكمال و
نعوت العظمة و الجلال.
الاول أنه (الدّالّ
على وجوده بخلقه) و قد مرّ كيفيّة هذه الدّلالة في شرح الخطبة الخمسين و بيّنا هناك
أنّ الاستدلال بهذه الطريقة من باب الاستدلال بالفعل على الفاعل، و مرجعه الى
البرهان اللمّى.
(و) الثاني أنه
الدّال (بمحدث خلقه على أزليّته) لما قد مرّ ثمة أيضا من أنّ الأجسام
كلّها حادثة لأنّها غير خالية عن الحركة و السّكون، و كلّ حادث مفتقر إلى محدّث
فان كان ذلك المحدث محدثا عاد القول فيه كالأوّل و يلزم التّسلسل أو كونه محدثا
لنفسه و كلاهما باطل، فلا بدّ من محدث قديم لا بداية لوجوده و هو اللَّه تعالى و
سبحانه.