أى بنيّ
إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا، و رأيتني أزداد وهنا، بادرت بوصيّتي إليك، و أوردت
خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضى إليك بما في نفسي، أو أن أنقص في رأيي
كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى، أو فتن الدّنيا، فتكون كالصّعب
النّفور، و إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقى فيها من شيء قبلته، فبادرتك
بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبّك، ليستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل
التّجارب بغيته و تجربته، فتكون قد كفيت مئونة الطّلب، و عوفيت من علاج التّجربة،
فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه و استبان لك ما ربّما أظلم علينا منه. أى بنيّ،
إنّي- و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي- فقد نظرت في أعمالهم، و فكّرت في
أخبارهم، و سرت في آثارهم، حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد
عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، و نفعه من ضرره، فاستخلصت لك
من كلّ أمر نخيله و توّخيت لك جميله،