ثمّ شرع بالوصيّة بالتقوى و التّحذير من
الدّنيا فقال (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه) فانّها اليوم الحرز و الجنّة و غدا الطريق إلى الجنّة (و أحذّركم الدّنيا فانّها)
ظلّ زائل وضوء آفل و سناد مائل (دار شخوص) و ارتحال (و محلّة تنغيص) و
تكدير لتكدّر عيشه بالالام و الأسقام (ساكنها ظاعن) مرتحل (و قاطنها بائن)
مفترق يعني انّ السّاكن فيها ليس بساكن في الحقيقة، و المقيم بها منتقل عنها
البتّة و ذلك لما بيّنا في تضاعيف شرح الخطب السّابقة أنها في الحقيقة سفر الاخرة
و هى الوطن الأصلي للانسان فهو من أوّل يوم خرج من بطن امّه و وضع قدمه في هذه
النشأة دائما في حركة و ازيال و ازداف و انتقال و ينقضي عمره شيئا فشيئا يبعد من
المبدأ و يقرب من المنتهى فسكونها نفس زوالها، و اقامتها نفس ارتحالها، و بقاؤها
عين انتقالها و وجودها حدوثها، و تجدّدها فناؤها، فانّها عند ذوى العقول كفىء
الظل، بينا تراه سابغا حتّى قلص، و زايدا حتّى نقص.
ثمّ ضرب
للدّنيا و أهلها مثلا عجيبا بقوله تشبيه مركب (تميد بأهلها
ميدان السّفينة بأهلها) حال كونها (تقصفها) القواصف و تصفقها (العواصف) من الرّياح (في لجج
البحار) الغامرات المتلاطمة التيّار المتراكمة الزّخار، و هو من تشبيه
المركب بالمركب على حدّ قول الشاعر:
و كأنّ أجرام النجوم طوالعا
درر نشرن على بساط أزرق
شبّه 7 الدّنيا بالسّفينة التّي في اللّجج حال كونها تضربها الرّياح الشديدة
العاصفة و شبّه أهل الدّنيا بأهل السّفينة، و شبه تقلّباتها بأهلها بالهموم و
الأحزان و الغموم و المحن بميدان السفينة و اضطرابها بأهلها، و شبّه الأمراض و
الالام و العلل و الأسقام و نحوها من الابتلاءات الدّنيويّة الموجبة للهموم و
الغموم بالرّياح العاصفة الموجبة لاضطراب السّفينة، و وجه الشّبه أنّ راكبى
السّفينة في لجج البحار الغامرة عند هبوب الرّيح العاصفة و الزعزع القاصفة كما لا
ينفكّون من علز القلق و غصص الجرض، فكذلك أهل الدّنيا لا ينفكّون من مقاسات
الشدائد و ألم المضض.