و قد أيد هذا المذهب أعني صيرورة الملكات صورا روحانية باقية أبد الدهر موجبة للبهجة و الالتذاذ و التوحش و التألم، بأنه لو لم تكن تلك الملكات و النيات باقية أبدا لم يكن للخلود في الجنة أو النار وجه صحيح، إذ لو كان المقتضى للثواب أو للعذاب نفس العمل و القول، و هما زائلان لزم بقاء المسبب مع زوال السبب و هو باطل، و كيف يجوز للحكيم أن يعذب عباده أبد الدهر لأجل المعصية في زمان قصير، فإذا منشأ الخلود هو الثبات في النيات و الرسوخ في الملكات. و مع ذلك فمن يعمل مثقال ذرة من الخير أو الشر يرى أثره في صحيفة نفسه أو في صحيفة أعلى و أرفع من ذاته أبدا كما قال سبحانه:
و السر فيه أن الأمر الذي يبقى مع النفس إلى حين مفارقتها من الدنيا و لم يرتفع عنها في دار التكليف يبقى معها أبدا و لا يرتفع عنها أصلا لعدم تجدد ما يوجب إزالته بعد مفارقته عن عالم التكليف.
ثم الظاهر أن هذا المذهب-عند من قال به من أهل الشرائع- بيان لكيفية الثواب و العقاب الروحانيين مع إذعانه بالجنة و النار الجسمانيين» إذ لو كان مراده قصر اللذة و الثواب و الألم و العقاب و الجنات و القصور و الغلمان و الحور و النار و الحجيم و الزقوم و الضريع و ساير ما ورد في الشريعة القادسة من أمور القيامة على ما ذكر فهو مخالف لضرورة الدين، (تنبيه) الدنيا و الآخرة متضادتان، و كل ما يقرب العبد إلى أحداهما يبعد عن الأخرى و بالعكس، كما دلت عليه البراهين الحكمية و الشواهد الذوقية و الأدلة السمعية، فكل ملكة أو حركة أو قول أو فعل يقرب العبد