الدنان [١] ، وتؤنس الغزلان ، وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفّظ ، وأرخي له عنان التبسّط ، يديرها هذا الأغيد المليح ، فاستضحك الأمير ، ثم أمر بمراتب الغناء ، وآلات الصهباء ، فلمّا دارت الكأس ، واستمطر الأمير نوادره ، أشار إلى الغلام أن يلحّ في سقيه ، ويؤكّد عليه ، فلمّا أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة : [المنسرح]
فاستبدع الأمير بديهته ، وأمر له ببدرة ، ويقال : إنه خيّره بينها وبين الوصيف ، فاختارها نفيا للظّنّة عنه ، انتهى.
قلت : أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي بن ظافر عن نفسه إذ قال : كنت عند المولى الملك الأشرف بن العادل بن أيوب سنة ٦٠٣ بالرّها ، وقد وردت إليه في رسالة ، فجعلني بين سمعه وبصره ، وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي ، فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلّا به ، وهو قائم على رأسي ، والسكر قد غلب عليه ، والشمع تزهر حواليه ، وقد حفّ مماليكه به ، وكأنهم الأقمار الزواهر ، في ملابس كالرياض ذات الأزاهر ، فقمت مروّعا ، فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد ، وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنّفاق بعد الكساد ، ثم قال : غلبني الشوق إليك ، ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك ، ثم استدعى من كان في مجلسه من خواصّ القوالين ، فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذا ، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا ، وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيّرا سماء ملكه ، وواسطتا درّ سلكه ، وقطبا فلك طربه ووجده ، وركنا بيت سروره ولهوه ، وكانا يتناوبان في خدمته ، فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر ، وكان كثيرا ما يداعبني في أمرهما ، ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما ، فقلت للوقت : [الكامل]
يا مالكا لم يحك سيرته
ماض ولا آت من البشر
اجمع لنا تفديك أنفسنا
في الليل بين الشمس والقمر
فطرب ، وأمر في الحال بإحضار الغائب منهما [٣] ، فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيرا،