قال ابن ظافر : صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل ، فرأينا فيه بئرا عليها دولابان متحاذيان ، قد دارت أفلاكهما بنجوم القواديس ، ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس [٢] ، وهما يئنّان أنين الأشواق ، ويفيضان ماء أغزر من دموع العشّاق ، والروض قد جلا للأعين زبرجده [٣] ، والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده [٤] ، والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون ، والسواقي قد أذابت [٥] من سلاسل فضّتها كلّ مصون ، والنبت قد اخضرّ شاربه وعارضه ، وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه ، ورضاب الغيث قد استقرّ من الطين في لمى ، وحيّات المجاري حائرة تخاف من زمرّد النبات أن يدركها العمى ، والبحر قد صقل النسيم درعه ، وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجوّ ردعه ، فأوسعنا ذلك المكان حسنا وقلوبنا استحواذا ، وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرّة والتذاذا ، وملنا إلى الدولابين شاكّين أزمرا حين سجعت [٦] قيان الطير بألحانها ، وشدت على عيدانها ، أم ذكرا أيام نعما وطابا ، وكانا أغصانا رطابا ، فنفيا عنهما لذيد الهجوع ، ورجّعا النوح وأفاضا الدموع طلبا للرجوع ، وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب ، من الأعاجيب ، ونتناشد ما وصفت به من الأشعار ، الغالية الأسعار ، فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون ، إلى ذكر قول الأعمى التّطيلي في أسد نحاس يقذف الماء :
أسد ولو أني ـ إلخ
فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى : يتولّد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع ، ويطرب الرائي [٧] والسامع ، فتأمّلت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة ، واستمددت مادة غريزتي الغزيرة ، فظهر لي معنّى ملأني أطرابا ، وأوسعني إعجابا ،
[١] المجرّة : نجوم في السماء لا ترى بالعين المجردة ، وإنما يرى ضوؤها كبقعة بيضاء.