قال : فرأيت الشيخ قد اختلط ، وجعل يجيء ويذهب ، ثم أفاق وقال : أعد بحقّ آبائك الكرام ، فأعدت ، فأعاد ما كان فيه وجعل يردّده ، فقلت له : لو علمت أنّ هذا يحرّكك ما أنشدتك إيّاه ، فقال : وهل حرّك منّي إلّا خيرا وعظة؟ يا بنيّ ، إنّ هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت ، وهي مستعدّة لهبوب الرياح ، فإن هبّ عليها أقلّ ريح لعب بها كيف شاء ، وصادف منها طوعه ، فأعجبني منزعه ، وتأنّست به ، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الانجماع والانكماش ، بل ما زال يبسطني ويحدّثني بأخبار فيها هزل ، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له ، ولا أعلم أكثره ، فلمّا كثر تأنسي به أهويت إلى يده كي أقبّلها ، فضمّها بسرعة ، وقال : ما شأنك؟ فقلت : راغبا لك في أن تنشدني شيئا من نظمك ، فقال : أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب ، ويجب للنظم أن يذهب معه ، وأمّا نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله ، وهو يثقل عليك ، فقلت له : إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه ، ومن نظم شيخوخته [٢] ، فيأخذ كلانا بحظّه ، فضحك وقال : ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب [٣] ووسيلة قصد ، ثم أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة : [مجزوء الكامل]