ومازال أهل الإتقان يقعون في مثل هذا. ألا ترى إلى أبي عبيد البكريّ مع تحقيقه [١] وفرط اعتنائه ، ونبل تواليفه ، قد أودع في مسالكه من الغلط في صفات البلدان ، وتحديدها وترجمتها ما لا غاية وراءه. فمن ذلك قوله في إيلياء مدينة بيت المقدس : «إنّ الجبال محيطة بها» وإنّما [٢] هي في نشز من الأرض كما ذكر ، وليس بالقرب منها جبل إلّا رواب وتلال. وأظنّه سمع بما دار بها من الوعر ، وما حازها من جهات الأودية المنقطعة ، فظنّها جبالا. ومنه قوله في وصف قصر الجمّ بإفريقيّة ـ وهو قصر الكاهنة ـ : «إن في دوره نحوا من ميل» [٣] وقد طلعت [٤] إلى أعلاه ، وتأمّلته ولو رمى الرّامي حجرا لخلّفه به. ومن ذلك قوله في سرت : «إنّها مدينة كبيرة على ساحل البحر بها حمّام وأسواق ، ولها بساتين ونخل» [٥] ، وهذا كلّه لا وجود له ، وإنّما هي قصير صغير يعرف بالمدينة ، وهو أوّل قصور سرت من جهة الشّرق. وبينه وبين البحر مسافة ، وما للنّخل بسرت كلّها وجود ، وأظنّه [٨٥ / آ] سمع بأنّ التّمر عندهم كثير ، فحكم بوجود النّخل عندهم ، وغلط في عكس القضيّة. والتّمر عندهم مجلوب من بلاد أوجلة [٦]. ومن ذلك قوله في نفيس [٧] بالمغرب الأقصى «إنّها مدينة
[٦] أوجلة : مدينة بينها وبين برقة في البحر عشر مراحل. وهي مدينة صغيرة متحضرة ، وهي في ناحية البرية يطيف بها نخل وغلات لأهلها. انظر الروض المعطار ٦٤.
[٧] نفيس : مدينة من بلاد المغرب عند أغمات تعرف بالبلد النفيس. وهو مدينة قديمة صغيرة حولها عمارات وطوائف من قبائل البربر. انظر المغرب ١٦٠ ، الروض المعطار ٥٧٨.