ولهم على ذلك براهين ، ويمثلون لذلك
برغيفي الجايع وطريقي الهارب مع تساوى الرغيفين والطريقين من جميع الجهات ، فإنه
لا إشكال في اختيار أحد الرغيفين والطريقين مع أنه ليس في اختيار ذلك مرجح أصلا ،
لأن المفروض تساوى الفردين في الغرض من جميع الجهات [١]. وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) يميل
إلى هذا بعض الميل. وهذا القول ليس بتلك المثابة من الفساد [٢] ويمكن الالتزام به ولا ينافيه تبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكفاية المصلحة النوعية في ذلك ، والذي لا يمكن
الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد في متعلقات الأوامر وأنها كلها تكون محض
الاقتراح ، لعدم معقولية الترجيح بلا مرجح ، مضافا إلى إمكان دعوى تواتر الأخبار
على خلافه ، كقوله صلىاللهعليهوآله
« ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد
[١] أقول : يمكن
توجيه كلامهم على نحو يخرج عن هذا المقدار من السخافة ، بأن يقال أو لا : بأن
المراد من المرجح الممكن في ظرف وجوده ليس إلا تمامية علل وجوده المتمم لها إرادة
الباري ( عز اسمه ) وهذه العلل ربما تكون خفية لا يحيط بها إلا ذاته المقدسة ، ولا
يلزم أن يكون من سنخ المصالح والمفاسد الموجبة لرجحان العمل لدى العباد ، وعليه :
فلا غرو في دعوى عدم إدراك العقل تلك العلل الخفية مع عدم وجدان العقل أيضا
للمصالح الراجحة في أنظارهم ، وحينئذ لهم أن يدعى أن للباري أن يحكم على ما يرى
مقتضيا لوجوده ، كما أنه قد يريد تكوينا ما فيه المفسدة بأنظار الغير المنكرين لها
لجهة خفية بنظر ، فصح مع إنكارهم للجهة المحسنة بأنظارهم وأنه تحت اختيار الباري ،
بلا التزام بلزوم الترجيح بلا مرجح واقعا في فعله ، وإن اتفق تخيل العباد ذلك ،
لعدم دركهم مرجحا لوجوده.
وثانيا : من الممكن حمل
كلامهم على منع تحسين الفاعل لا منع رجحان الفعل من جهة التزامهم مجبورية العباد ،
وحينئذ مرجع سخافة مذهبهم إلى هذه النقطة لا غيره ، كما أن إنكارهم المصالح
والمفاسد في الأفعال كلية أيضا سخيف ، لوجدان العقل في بعض الأفعال المصالح
والمفاسد ، ولكن هذا المقدار قابل للشبهة ولم تبلغ إلى درجة لا يلتزم به ذو مسكة ،
غاية الأمر الشبهة بأنظار صحيحة مندفعة بالوجدان السليم والذوق المستقيم ، نظير
مشيهم في مجبورية العباد ، كما لا يخفى.
[٢] أقول : مع فرض
بطلان الترجيح بلا مرجح لا يرى العقل فرقا بين النوع والشخص ، فهما في السخافة سيّان.