وأمّا في دعواه الثانية : من أن العلم
بحرمة ما يكون واجبا مغير لجهة قبح التجري. ففيها أنه لو سلمنا اختلاف قبح التجري
بالوجوه والاعتبار ، ولكن الجهات المغيرة للحسن والقبح لابد وأن تكون ملتفتا إليها
، لما تقدم من أن العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ، ولا يمكن أن
يكون الشيء قبيحا عقلا بلا أن يكون الموجب للقبح ملتفتا إليه [١] فالكذب الذي يتوقف عليه إنجاء البنى
قبيح إذا لم يلتفت إلى التوقف ، والصدق الموجب لهلاك البنى حسن إذا لم يلتفت إلى
ذلك ، وباب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة التي لا دخل للعلم بها ، فمجرد
كون الفعل المتجرى به ذا مصلحة واقعا لا يوجب تغيير قبح التجري بعد ما لم تكن
المصلحة معلومة ولم يكن المكلف ملتفتا إلى وجوبه ، ففي مثل هذا قبح التجري يكون
على حاله ، كما هو واضح.
وأما ما في دعواه الثالثة : من أن
التجري لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها أن التجري لا يعقل أن يجتمع مع
المعصية حتى يتداخل العقاب ، بل التجري في طرف النقيض للمعصية ، إذ قوام التجري هو
عدم المصادفة ومخالفة الواقع [٢]
كما أن قوام المعصية هو المصادفة للواقع ، فكيف يجتمع التجري
[١] أقول : ما أفيد
صحيح بالنسبة إلى العامل. وأما بالنسبة إلى سائر الأنظار الملتفتين إلى الجهتين ،
فلا قصور في اختلاف الجهات المحسنة والمقبحة من هذه الجهة. نعم : الأولى الاقتصار
إلى الجهة الأولى ، فتدبر.
[٢] أقول : الذي به
قوام التجري صدق إبراز الجرئة على المولى مع عدم صدق العصيان عليه ، وهذا المعنى
ربما يتحقق ولو بايجاد مقدمة من المقدمات حتى عزمه على العصيان ، ومن المعلوم : أن
هذه المقدمات غير نفس العصيان سواء صادف معه أم لا ، وليس من مقوماته عدم مصادفة
هذه المقدمات مع العصيان. وحينئذ لا قصور في اجتماع التجري مع العصيان في جميع
موارد العصيان. نعم : قد يتحقق بلا عصيان ، فتكون دائرة التجري أوسع من العصيان لا
مبائنا معه موردا. نعم : يباينه في الوجود ، فإن العصيان بنفسه غير التجري ، فهو
لا يجتمع معه حتى موردا ، كما لا يخفى.
وحينئذ الذي يرد عليه : هو أن
موضوع القبح لو كان هذا العنوان المقابل للعصيان لا موجب لتداخل عقابها. نعم : لو
كان صادقا حتى على نفس العصيان فعقابهما يتأكد لا أنه يتداخل ، ولكنه أيضا كما ترى!.
نعم : بناء على التحقيق ـ كما
أشرنا إليه ـ من أن موضوع القبح مطلق الطغيان الجامع بينهما ، لا بأس بالالتزام
بأن الطغيان شخص واحد لا يكون إلا عقابا واحدا ، فإن أراد من التداخل هذا فلا بأس
به ، فتدبر.