responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : العدة في أصول الفقه نویسنده : الشيخ الطوسي    جلد : 1  صفحه : 3
مقدمة عن حياة الشيخ الطوسي و آثاره [ 5 ] بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير الخلق أجمعين محمدٍ و على آله الطيبين الطاهرين المعصومين الشيخ الطوسي - حياته و آثاره«»هو أبو جعفر، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي، ولد بمدينة «طوس» في شهر رمضان عام 385 ه، و كانت طوس في تلك الأزمنة إحدى‌ مراكز العلم المهمة في خراسان. و نسبته إلى طوس ترجع إلى ولادته - على الأرجح - بها و قضاء عقدين من عمره فيها.
[ 6 ] و تَعتبر الشيعة الشيخ الطوسي - رحمه اللَّه - أعظم شخصية علمية بعد الأئمة المعصومين عليهم السلام و هو من أعلام الفكر الإِسلامي في أزهى عصوره و أبهاها، و من النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم بلغ منتهاها و غايتها، و قد أقرّ له الجميع بالسبق، و القِدم، و الفضل، و عُلوّ الرُّتبة، و الإِمامة، و الزعامة، و لا تُطلق صفة (شيخ الطائفة) بل مطلق (الشيخ) إلاّ عليه، و قد وصفه أعلام الإِمامية بنعوت شتّى و صفات قلّ أنْ اجتمعت في غيره، فقيل فيه: إنّه (شيخ الإمامية و وجههم و رئيس الطائفة)، و (امام وقته، و شيخ عصره، رئيس هذه الطائفة و عمدتها، بل رئيس العلماء كافة)، و (شيخ الطائفة، و رئيس المذهب، إمامٌ في الفقه و الحديث)، و (رئيس المذهب، شيخ الطائفة، قدوة الفرقة الناجية، و باني مباني كلّ علم و عمل)، و (إمام الفقه و الحديث و التفسير و الكلام، لا نظير له في كلّ علماء الإسلام في كلّ فنون العلم، و صنّف كتباً لم يسبقه أحدٌ [ 7 ] في الإسلام إلى‌ مثلها)، و (كان في زمانه المُجمع على‌ فضله، و إليه الرحلة من جميع البلاد).***
نبدأ حديثنا عن الشيخ الطوسي:
أولا: عن حياته، و ذلك عن ثلاث مراحل هامة في حياته و هي:
1 - فترة خراسان
2 - فترة إقامته ببغداد: و في هذه المرحلة نتحدث عن مشايخه، و زعامته، و الأوضاع الاجتماعية و السياسية ببغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، و عن خصائص مدرسته ببغداد.
3 - الشيخ الطوسي في النجف الأشرف
4 - تلاميذ الشيخ الطوسي ثانياً: تراث الشيخ الطوسي ثالثاً: دراسة حول كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)
1 - دور الشيعة في تأسيس علم أُصول الفقه
2 - مراحل تطور علم أُصول الفقه عند الشيعة الإمامية
3 - الشيخ الطوسي و دوره في تطوير علم أُصول الفقه
4 - منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العُدّة في أُصول الفقه)
5 - مخطوطات كتاب (العُدّة في أُصول الفقه) رابعاً: عملنا في التحقيق***
[ 9 ] أولاً: حياة الشيخ الطوسي - رحمه اللَّه -
1 - الطوسي في خراسان لا نمتلك معلومات تفصيلية عن حياة الطوسي في الفترة التي عاش فيها في خراسان، بل الطوسي نفسه لم يتعرض إلى‌ هذه الفترة من حياته - و التي دامت مدة ثلاث و عشرين سنة - سوى أنه أشار لسنة دخوله إلى بغداد بقوله: (... من وقت دخولي إلى‌ بغداد و هي سنة ثمان و أربعمائة)«»، و سوى هذه الإِشارة لا نعرف كيف قضى الطوسي حياته خلال مدة ثلاث و عشرين سنة، و لا شك أنّه - و بمقتضى القاعدة - قضاها في طوس و سائر مدن خراسان، ذلك الإِقليم الواسع الّذي أنجب كثيراً من المفكرين و ينسب إليه خلق كثيرٌ من العلماء في كل فن، و لم يتعرض المترجمون لحياة الطوسي في هذه الفترة إلاّ إلى‌ إشارة عابرة، و احتملوا أنه درس فيها علوم اللغة و الأدب و الحديث و علم الكلام و شيئاً من الفقه و الأُصول على [ 10 ] مشايخ خراسان، و أول من تنبه إلى أهمية هذه الفترة هو العلامة السيد عبد العزيز الطباطبائي - رحمه اللَّه - فانه تتبع مشايخ الطوسي فعثر على ثلاثة منهم تتلمذ عليهم الشيخ الطوسي في نيشابور و مشهد و طوس«».
و هكذا ظهر أنّ الشيخ قضى فترةً من حياته العلمية في نيسابور و طوس، و قد كانتا حاضرتين من حواضر العلم المهمة في خراسان. و تبرز أهمية حضور الطوسي في نيسابور و مدى تلقيه العلم بها أنّه حينما هاجر إلى بغداد كان يملك قسطاً وافراً من العلوم الإسلامية بحيث مكّنه من الجلوس في مجالس العلم المهمة ببغداد.
و هؤلاء المشايخ الثلاثة هم:
1 - أبو حازم النيسابوري (؟ - 417 ه):
هو أبو حازم، عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس بن علي بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، العبدوي، الهذليّ، الأعرج النيسابوري، الأشعري، الشافعي. وصفه الخطيب البغدادي بقوله:
(قدم بغداد قديماً (سنة تسع و ثمانين و ثلاثمائة) و حدّت بها فسمع منه... و بقي أبو حازم حياً حتى لقيته بنيسابور و كتبت عنه الكثير، و كان ثقة، صادقاً، عازماً حافظاً يُسمع الناس بإفادته، و يكتبون بانتخابه.)«».. و قد أطراه آخرون أمثال: ابن مأكولا (في الإِكمال 2: 280) و عبد الغافر (في [ 11 ] السياق بذيل تاريخ نيسابور) و الذهبي (في تذكرة الحفّاظ 3: 1072).
و صرّح الشيخ الطوسي بتلمذته عليه في كتاب (الفهرست) رقم 852 حينما قال: «أبو منصور الصّرام، من جملة المتكلمين من أهل نيسابور، و كان رئيساً مقدماً، و له كتب كثيرة منها: كتابٌ في الأصول سمّاه (بيان الدين)... قرأت على أبي حازم النيسابوري أكثر كتاب (بيان الدين)...».
و يستفاد من أقوال هؤلاء أن أبا حازم حجّ سنة 387 ه و دخل بغداد سنة 389 ه و مكث بها قليلاً و أملى أحاديثه على جماعة، ثم عاد إلى مسقط رأسه نيسابور و بقي فيها حتى وفاته سنة 417 ه، فلو لاحظنا عودة أبي حازم إلى نيسابور سنة 389 ه و إقامته بها إلى حين وفاته سنة 417 ه و تصريح الشيخ انه قرأ عليه كتاب (بيان الدين) يثبت لدينا ان الطوسي لم يلتق به إلاّ في نيسابور و لم يأخذ العلم منه الا في مجالسه بهذه الحاضرة و ذلك في الفترة الممتدة من سنة 390 ه لغاية 408 ه حيث ترك الشيخ خراسان متوجهاً إلى بغداد.
2 - المُقري النيسابوري (427 -؟):
هو أبو محمد عبد الحميد بن محمد المُقري النيسابوري المتوفى سنة 427 ه، عدّه العلامة الحلي في إجازته لبني زُهرة من مشايخ الطوسي، لكن لم يرد له ذكر في كتب الطوسي، و وصفه عبد الغافر الفارسي في (السياق بذيل تاريخ نيسابور) بقوله: «عبد الحميد بن محمد بن أحمد بن جعفر المشهدي، أبو محمد، مستورٌ، قال الحسكاني: قرأت عليه بالمشهد و نيسابور و كان يحضر أحياناً و يخرج، توفي في سنة سبع [ 12 ] و عشرين و أربعمائة». و لعل الشيخ الطوسي قرأ عليه في نيسابور أو طوس أو مشهد الرضا عليه السلام.
3 - أبو زكريّا محمد بن سليمان الحمراني:
تعرض الطوسي له في فهرسته حيث ذكره في عداد مشايخه و ذلك في نهاية ترجمته للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي قال: «أخبرنا بجميع كتبه و رواياته جماعة من أصحابنا منهم:
الشيخ المفيد، و الحسين بن عبيد اللَّه، و أبو الحسين جعفر بن الحسكة القمي، و أبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني، كلهم عنه» و قد اختُلف في ضبط لقبه: الحمراني، الحرّاني، الحمداني. ثم انّ العلامة الحلّي حينما عدّد مشايخ الطوسي في إجازته لبني زُهرة قال عن الحمراني: «من أهل طوس» فاستظهر الشيخ آغا بزرگ الطهراني منها أنّ الحمراني من مشايخ الطوسي في فترة ما قبل هجرته إل ى بغداد، و لم يرد ذكرٌ و ترجمة له في كتب التراجم سوى ما ذكره ابن بشكوال في كتاب (الصلة) عن تاجرٍ قدم الأندلس سنة 423 ه و هو محمد بن سليمان بن محمود الخولاني ثم روي عن ابن الخزرج في (تاريخ الأندلس) وصفه: أنّه عالمٌ، حافظٌ، ثقة، شاعر، تلقى الحديث عن المشايخ بالعراق و خراسان، عالي السند، و أجاز ابن الخزرج برواية أحاديثه سنة 423 ه و كان عمره آنذاك أربع و سبعون عاماً.
و يُحتمل اتحاد الرجلين و أنّ لقب الخولاني قد حُرّف في النُسَخ إلى الحمراني و الحرّاني و الحمداني، فيكون الشيخ قد تلقى عند الحديث و العلم بخراسان أو في العراق.
[ 13 ] و بعد ان نال الطوسي قسطاً وافراً من العلوم في الحواضر العلمية بخراسان، اشتاقت نفسه إلى طلب المزيد فباتت خراسان بحواضرها و مشايخها و فقهائها و محدثيها و متكلميها عاجزة عن إشباع رغباته العلمية، فاتجهت أنظاره صوب العراق و عاصمتها مدينة السلام بغداد.
و لعل السبب الرئيسي وراء هجرة الشيخ الطوسي إلى بغداد هو الأجواء التي كانت تحيط بخراسان و ما وراء النهر في تلك الفترة الزمنية، فان هذه المنطقة المهمة و الكبيرة، بمدنها العامرة و حواضرها العلمية كانت من المعاقل الشيعية المهمة في القرنين الثالث و الرابع الهجريين، فانه برغم وجود أكثرية سنيّة في المنطقة«»الا ان الشيعة كانت تتمتع بنفوذ و شأن قويين و كانت دعاة الشيعة منتشرة في مدن خراسان و قراها تدعو الناس إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام و كانت البيوتات و العوائل العلوية منتشرة في نيسابور و قراها و خاصة بمشهد الرضا عليه السلام و كانت موضع احترام الجميع، كما أنَّ مثوى الإِمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - بطوس كان له تأثير معنوي قوي على انتشار الولاء و الحُبّ لآل البيت عليهم السلام، فقد صار قبر الإمام مزاراً و قصده المسلمون - سنةً و شيعة - للتبرك و قضاء الحوائج، فهذا أبو حاتم محمد بن حبّان البُستي، من أعلام السُّنة و من أئمة الجرح و التعديل حينما يتعرض لترجمة الإمام الرضا عليه السلام يقول: «و قبره بسناباد خارج النوقان، مشهورٌ يزار [ 14 ] بجنب قبر الرشيد، قد زرته مراراً كثيرةً، و ما حلّت بي شدة في وقت مُقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى‌ الرضا صلوات اللَّه على جده و عليه و دعوت اللَّه إزالتها عني، إلاّ استجيب لي و زالت عني تلك الشدة، و هذا شي‌ءٌ جربته مراراً فوجدته كذلك، أماتنا اللَّه على محبة المصطفى و أهل بيته صلّى اللَّه عليه و عليهم أجمعين»«». و أيضا يمكن معرفة مدى نفوذ الشيعة و انتشارها و نشاطها و حريتها في إبداء الرّأي في هذه المنطقة إذا لاحظنا المراسلات المتبادلة بين شيعة المنطقة و رءوس الإِمامية و أعلامها ببغداد و قم و الرّي، فالشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القُمّي له رسالة كتبها جواباً على سؤال وُجّه إليه من أهالي نيسابور، كما يجب ملاحظة أنّ كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) و هو أحد الأصول الأربعة التي عليها اعتماد الشيعة في استنباط الأحكام قد ألّفها الصدوق بما وراء النهر، فانه حينما سافر إلى تلك المنطقة سنة 368 ه طلب منه شريف الدين أبو عبد اللَّه محمد بن حسن بن إسحاق المعروف بنعمة أن يُصنِّف له كتاباً في الحلال و الحرام، و له أيضا كتاب (كمال الدين و تمام النعمة) ألّفها لإِزالة بعض الشبهات حول المهدوية و التي أُثيرت عند الشيعة بما وراء النهر. و للشيخ المفيد و السيد المرتضى أيضا مثل هذه الرسائل الجوابية«».
[ 15 ] لكن وقعت الانتكاسة الخطيرة في منتصف القرن الرابع و ذلك حينما استولى محمود الغزنوي على خراسان و ما وراء النهر و بسط نفوذه على جميع المنطقة، و لم يقنع بهذا المقدار بل أراد دعم موقفه أمام الخصوم فرفع شعار المناصرة من أهل السُّنة، فاشتد الأمر على الجميع عدا من كان معتقداً بمذاهب الدولة، و هكذا مرت فترة قاسية على الذين كانوا يدرسون العلوم العقلية و من كان لا يدين بمذاهب أهل السُّنة و خاصة الشيعة، و قد بالغ السلطان محمود الغزنوي في قتلهم (و نفى خلقاً كثيراً من المعتزلة، و الرافضة، و الإِسماعيلية، و الجَهْميّة، و المُشَّبهة، و أمر بلعنهم على المنابر)«». و انتهز فقهاء أهل السُّنة - كعادتهم في موالاة سلاطين الجور - الفرصة فأفتوا بالقتل و الحرق و النفي للفلاسفة و المتكلمين و العقلانيين و الشيعة و المعتزلة، و حتى المساجد لم تسلم من اضطهادهم، روى‌ الحافظ عبد الغافر الفارسي في (ذيل تاريخ نيسابور - المنتخب من السياق: 13) في ترجمة أبي بكر الواعظ أنه كان: «زعيم أصحاب أبي عبد اللَّه و رئيسهم، صاحب القول في وقته عند السلطان، بسيط الجاه، كان مقرباً عند الأمير يمين الدولة محمود، دعا إلى السُّنة و هدم المسجد الجديد الّذي بناه الروافض»«»، و في عام 420 ه قام.
[ 16 ] السلطان محمود الغزنوي بحملة ضارية أُخرى «و حُوّل من الكتب خمسون حملاً ما خلا كتب المعتزلة و الفلاسفة و الروافض فانها أُحرقت تحت جذوع المصلوبين إذ كانت أُصول البدع»«».
ففي أثناء هذه المحنة عزم الشيخ الطوسي مغادرة خراسان فيمّم وجهه صوب مدينة السلام، تلك المدينة التي كانت مهبط العلماء، و مهوي الطلاب، و موئل الفقيه و المحدّث و الفيلسوف و المتكلم، بل الدهري و الزنديق و الملحد، حيث مجالس العلم و الإملاء و الاستملاء و المناظرة عامرة، كلّ ذلك في ظلال الدولة البويهية، تلك الدولة الشيعية التي استضافت و برحابة الصدر جميع المذاهب و الفرق و النِحل و حتى تلك التي كانت تعادي الشيعة بل و تكفّرها، فسلكوا سبيلاً وسطاً تجاه جميع الميول و الاتجاهات و الفِرَق، فلم يتحزبوا لفئة معيّنة على حساب فئة أُخرى، و لم ينحازوا إلى رأي خاص بل تركوا الناس أحراراً في معتقداتهم و آرائهم، و هكذا بسطوا الأمن في تلك الربوع الشاسعة التي حكموها قرناً من الزمن، و سوف نعود إلى الحديث عنهم حين استعراضنا للأوضاع الاجتماعية ببغداد في القرن الخامس الهجري.***
[ 17 ]
2 - الشيخ الطوسي في بغداد غادر الطوسي خراسان نهائياً و إلى غير رجعة و اتجه صوب العراق«»فوصل إلى بغداد سنة 408 ه، و تعتبر فترة إقامته ببغداد فترة هامة له فقد دخلها شاباً مغموراً في بدايات العقد الثاني من عمره و خرج منها شيخاً بعد أربعين سنة، و هو حينذاك زعيم الشيعة و شيخها المُقدّم و إمامها المطاع، و بعد ان ملأ الخافقين صيته و شهرته و مؤلفاته.
ارتبط الشيخ الطوسي في بغداد بمجموعة كبيرة من الأعلام، فحضر [ 18 ] مجالسهم و استمع منهم العلم و سوف نعدّد أسماءهم لاحقاً، لكنه ارتبط باثنين من هؤلاء ارتباطاً وثيقاً فلازمهما و استفاد منهما كثيراً و كان لهما تأثيرات بعيدة المدى في تفكير الشيخ - و إن فاقهما الشيخ لاحقاً - و هما الشيخ محمد بن محمد بن النعمان العُكبري البغدادي المشهور بالمفيد أولا، ثم الشريف المرتضى ثانياً، فحضر الطوسي أولا مجالس المفيد (و هو يوم ذاك شيخ متكلمي الإمامية و فقهائها و انتهت رئاستهم إليه في وقته في العلم) مدة خمس سنوات (413 - 408 ه) فظهرت خلال مدة قليلة فضائله و ملكاته و شرع في تأليف كتاب (تهذيب الأحكام) يشرح فيه كتاب (المُقنعة) لأُستاذه الشيخ المفيد، و قد أكثر في شرحه من عبارة (قال الشيخ أيّده اللَّه تعالى) و يقصد به الشيخ المفيد حيث كان لا يزال حياً و توفي سنة 413 ه و قبل أنْ يكمل الشيخ تأليفه، و هذا الكتاب أحد الأُصول الأربعة التي يرجع إليها المجتهدون من الإمامية لاستنباط الأحكام الشرعية. و بعد وفاة الشيخ المفيد ارتبط الطوسي بخليفة المفيد في الزعامة و أبرز تلاميذه أي الشريف المرتضى، و كانت للمرتضى منزلة اجتماعية راقية عند عامة الناس و الدولة، فقد كان نقيب الطالبيين، و أمير الحاجّ، و قاضي القضاة، و متولي ديوان المظالم، هذا فضلاً عن علمه الّذي لم يدانه فيه أحدٌ في زمانه، و قيل عنه: إنّه كان أكثر أهل زمانه أدباً و فضلاً.
و أمّا ثروته الطا ئلة فقد بذلها في سبيل العلم و تربية الطلاب فأجرى‌ على تلامذته رزقاً كلٌّ حسبَ مرتبته العلمية، فكان للشيخ الطوسي أيام قراءته عليه كل شهر اثنا عشر ديناراً. و خلال فترة تلمذة الطوسي على الشريف أنجز تلخيص كتاب (الشافي في الإمامة) للشريف المرتضى و حاول من [ 19 ] خلال تلخيصه تبسيط مسائل الشافي و تقريبه إلى أذهان المتعلمين و التركيز على المسائل الهامة فيه، و يعدّ هذان الكتابان من أهم الكتب الكلام عند الإمامية.
1 - شيوخ الشيخ الطوسي - رحمه اللَّه -«» تتلمذ الشيخ الطوسي خلال فترة عام 408 ه و لغاية 436 ه على جماعة آخرين من الأعلام - فضلاً عن المشايخ الثلاثة الذين سبق و ان تحدثنا عنهم - و نكتفي بذكر أسمائهم لورود تفاصيل حياتهم في أكثر المصادر التي تحدثت عن حياة الشيخ الطوسي و هم:
4 - أحمد بن إبراهيم القزويني (؟)
5 - أحمد بن حسين بن علي الحضرميّ، البيّع المعروف بابن السُّكري (362 - 450 ه)
6 - أحمد بن عبد الواحد بن عبدون البرّاز (؟ - 432 ه)
7 - أحمد بن محمد بن الصَّلت الأهوازي (324 - 409 ه)
8 - أبو الحسين جعفر بن حسين بن حَسكة القميّ (؟)
[ 20 ]
9 - أبو علي حسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البرّاز الأشعري، الحنفي، المتكلم (339 - 426 ه)
10 - الشريف أبو محمد حسن بن أحمد العلوي (كان حياً سنة 425 ه)
11 - أبو على حسن بن محمد بن إسماعيل بن أشناس البزّاز المعروف بابن أشناس و ابن الحمّامي (359 - 439 ه)
12 - أبو محمد حسن بن محمد بن يحيى السّامرائي، المُقري، المعروف بالفحام و ابن الفحام (؟ - 408 ه)
13 - أبو عبد اللَّه حسين بن إبراهيم القزويني (؟)
14 - أبو عبد اللَّه حسين بن إبراهيم بن علي، ابن حنّاط القميّ (؟)
15 - أبو عبد اللَّه حسين بن أحمد بن محمد البزّاز المعروف بابن القادسي البغدادي (356 - 447 ه)
16 - أبو عبد اللَّه حسين بن عبيد اللَّه بن إبراهيم الغضائري البغدادي (؟ - 411 ه)
17 - أبو عبد اللَّه حمويه بن علي بن حمويه البصري (؟)
18 - أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد اللَّه المشهور بابن المهدي، البزّاز الفارسي (318 - 410 ه)
19 - أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المعروف بابن الحمّامي المُقري (328 - 417 ه)
20 - أبو الحسين ابن جيد علي بن أحمد بن محمد الأشعري القميّ (؟)
21 - أبو القاسم علي بن شبل بن أسد الوكيل (؟)
22 - أبو القاسم علي بن محسن بن علي بن محمد القاضي التّنوخي [ 21 ] (365 - 447 ه)
23 - أبو الحسين علي بن محمد بن عبد اللَّه بن بشران (328 - 415 ه)
24 - أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان القميّ
25 - أبو الفتح محمد بن أحمد بن محمد بن فارس المعروف بابن أبي الفوارس البغدادي (338 - 412 ه)
26 - أبو الحسين محمد بن محمد بن علي المعروف بالعُبيدلي النسّابة (338 - 437 ه)
27 - أبو الحسن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مُخلَّد البزّاز البغدادي الحنفي (329 - 419 ه)
28 - أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الكَسْكَريّ البغدادي المعروف بالحفّار (322 - 414 ه)
29 - أبو الحسن محمد بن حسين المعروف بابن الصَّقال
30 - أبو طالب حسين بن علي بن محمد بن غرور الأنماطي
31 - أبو عبد اللَّه أخو سروره
32 - أحمد بن علي بن أحمد النجاشي الأسدي (372 - 450 ه) هذه الكوكبة اللامعة من الأعلام الذين قلّ نظيرهم كانوا مشايخ الطوسي و بينهم الشيعي و السُّني، فاستفادَ الطوسي من السُّني كما تعلم من الشيعي، و المتتبع لتراث الشيخ الطوسي يلاحظ أثر هذا التنوع من المعارف المُتلقاة حيث استوعب معارف الطائفتين فأبرزها بجدارة فائقة في إطار جديد. و أيضا يُظهر لنا تتبع تراجم هؤلاء المشايخ أمراً آخر و هو [ 22 ] أنّ كل واحد من هؤلاء الرّجال كان رأساً في فن من الفنون و المرجع الوحيد في ذلك العلم من العلوم الإسلامية، و كان يعدّ قوله الحُجّة و القول الفصل، فبينهم المتكلم البارع، و الأديب اللامع، و الأُصولي، و المحدّث، و الفقيه، و النحوي، و المُقري و العالم بالقراءات و التفسير، و الرّجال و الأنساب و غيرها. و يكفي أن نتصفح «تفسير التبيان» أو «الأمالي» أو «التهذيب» أو «العُدّة في أُصول الفقه» لنقف على قدرة الشيخ و سعة معلوماته و عمقها في مختلف العلوم الإسلامية.
و في نهاية المطاف ينبغي أنْ نشير إلى أمرين و هما:
أولاً: مجلس الشيخ المفيد و داره اللتان كان يحضرهما جماعة من العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية، و دار العلم لسابور بن أردشير و خزانة كتبه حيث كانت ملتقى رجال الفكر و الأدب، و منتدى العلماء و الباحثين يشدّون إليها الرِّحال، و إليها كان يتردد أبو العلاء المعري و أضرابه، و أيضا دار علم الشريف المرتضى و مكتبته العامرة التي كانت تحتوي على ثمانين ألف مجلد و أصبحت ملتقى العلماء و الأُدباء و الباحثين، كما أن دار الشريف المرتضى كانت دار علم و مناظرة. فقد استفاد الشيخ الطوسي من جميع هذه المناهل العذبة فنمت قابلياته و ترعرعت و أنتجت مدرسة عظيمة خالدة على مرّ الدهور ألا و هي مدرسة الشيخ الطوسي و تراثه الخالد.
ثانياً: نسب الذهبي في (سير أعلام النبلاء)«»، و السُّبكي في (طبقات الشافعية الكبرى‌) الشيخ الطوسي إلى المذهب الشافعي، قال:
[ 23 ] «محمد بن الحسن بن علي، أبو جعفر الطوسي، فقيه الشيعة و مصنّفهم، كان ينتمي إلى المذهب الشافعي، قدم بغداد و تفقه على المذهب الشافعي...».
أقول: إنهما أخطئا في هذه النسبة فان شهادتهما باطلة من جهات عديدة:
1 - بشهادة الطوسي نفسه حيث يقول حين ترجمته لعُثمان بن سعيد العمريّ - و هو أحد النوّاب الأربعة للإِمام الثاني عشر عليه السلام - إنّه كان يزور قبره مُشاهرة منذ دخوله بغداد قادماً من خراسان«»، و كان العمريّ من أعيان الإِمامية و عَمَد الشيعة ببغداد، فمواظبة الشيخ على زيارة قبره مشاهرة من حين دخوله إلى بغداد سنة 408 ه و لغاية عام نيف و ثلاثين و أربعمائة ينفى كونه شافعياً.
2 - فان جماعة من أعيان الإِمامية ترجموا حياة الشيخ قبل الذهبي و السُّبكي و لم ينسبوه للشافعية، كالنجاشي المتوفى سنة 450 ه و غيره.
3 - صنف الشيخ الطوسي في بدايات دخوله إلى بغداد كتابه الشهير (التهذيب) و هو شرح لكتاب شيخه المفيد في الفقه الإِمامي و استمر في شرحه له إلى عدة أعوام بعد وفات شيخه عام 413 ه و هذا ينفى أن يكون خلال هذه الفترة التي امتدّت ما يقارب عشر سنوات شافعياً. هذا فضلاً [ 24 ] عن بقية مؤلفاته التي جميعها تشهد بإماميته و تشيّعه و أنه لا يمتُّ للشافعية بصلة لا من قريب و لا من بعيد.
نعم قد يكون السُّبكي صادقاً في نسبته أنه (تفقه على المذهب الشافعي) إذ كان من ديدن الشيخ معرفة جميع الآراء و المذاهب و لعله حضر دروس بعض فقهاء الشافعية فظنّه البعض أنّه منها، كما يوجد في عداد مشايخ الطوسي بعض أعيان الأحناف و الشوافع و لعل وجودهم في طبقة مشايخه سبّب هذه النسبة الباطلة.
2 - زعامة الشيخ الطوسي توفي الشريف المرتضى - رحمه اللَّه - في ربيع الأول سنة 436 ه فخلفه في زعامة الإِمامية تلميذه الأقدم و الأبرز الشيخ الطوسي. و لا يخفى أنّ بلوغ الرّجل إلى هذه الرتبة و المقام لا يتم إلاّ إذا كان يمتلك الصفات اللازمة التي تؤهله لبلوغها، و قد أهلّت المكانة العلمية التي كان الشيخ يمتلكها أن يتصدر هذه الزعامة دون منازع، حيث مرّ على دخوله إلى بغداد مدة ثمان و عشرين سنة و خلال هذه الفترة قد استفاد الشيخ و استزاد من العلوم بحيث صار علماً بارزاً من أعلام مدينة السلام لا يجاريه أحدٌ، فمناظراته العلمية و مباحثه و آراؤه الجزئية و مؤلفاته القيّمة كلها بالإضافة إلى العناية الربانية كانت السبب في أن تشخص إليه الأبصار و تتجه إليه الأنظار حت ى قبل وفات شيخه الشريف المرتضى، و حينما لبّى الشريف - رحمه اللَّه - نداء ربه تفرغ الشيخ الطوسي للتدريس و التعليم و انشغل بالأمور التي تخصُّ الزعامة الدينية لطائفة مهمة و كبيرة، فأصبح «شيخ [ 25 ] الطائفة و عمدتها» و الإِمام الأعظم عند الشيعة الإِمامية التي كانت منتشرة في طول البلاد الإسلامية و عرضها بدءاً بما وراء النهر و خراسان و مروراً ببلاد الدّيلم و طبرستان و بلاد فارس و بلاد الجبل و آذربايجان و انتهاءً بالعراق و الشام و الحجاز و اليمن و مصر، و هكذا صار الشيخ الطوسي مرجع الإِمامية على الإطلاق و بلا منازع، و قد دان الجميع له بالفضل و العلم و القِدَم و سُمو الرُّتبة و المكانة، فتقاطر عليه العلماء و الطلاب لحضور مجلسه حتى عُدّ تلاميذه أكثر من ثلاثمائة من مختلف المذاهب الإسلامية. و لا ريب أنّ شهرته العلمية المستفيضة و انعقاد الإجماع على أهميته بالإضافة إلى تحرر الفكر الإِمامي على عهده من التقية كانت وراء هذا الإقبال الّذي لا نظير له في مختلف الأوساط و المذاهب على حضور درسه و الاستماع إلى محاضراته و التعويل عليه في الأمور العلمية، و قد منحه الخليفة العباسي القائم بأمر اللَّه (497 - 422 ه) كرسي الكلام و كان هذا الكرسي لا يعطى الا للقليلين من كبار العلماء و لرئيس علماء الوقت«».
و استمرت زعامة الطوسي في بغداد مدة اثنتي عشرة سنة (436 لغاية 448 ه) و كان يتمتع بالمكانة التي كان يتمتع بها قبله أستاذاه الشيخ المفيد و الشريف المرتضى، و إنْ فاقهما في بعض مراتب العِلم و الفضل و الكمال.
و قد استطاع و الطوسي خلال هذه الفترة أن يُربّي نخبة من التلاميذ و أن يضيف إلى التراث الإسلامي مصنفات جديدة، هذا فضلاً عن متابعته لشئون الشيعة في العراق و خارجها و الاتصال بهم عبر وكلائه، و الإجابة عن أسئلتهم و استفتاءاتهم، و لكن عادت المشكلة التي ترك من أجلها [ 26 ] الشيخ الطوسي خراسان إلى بغداد من جديد، إذا وصلت إلى بغداد موجة جديدة من الأتراك الأجلاف المتعصّبين الجهلة الذين لم يكن لهم همٌّ سوى السَّلب و النَّهب و الاستيلاء على مقاليد السلطة، فأحرقوا في طريقهم من خراسان و ما وراء النهر إلى الرّي و العراق دور العلم و المكتبات و المدارس و أعدموا الفلاسفة و المتكلمين و المثقفين و العقلانيين، و أماتوا الثقافة الإسلامية الناهضة، و أحيوا الجهل و الخرافة، و زكّوا نار العصبية و السلفيّة. و هذه الموجة كانت موجة السلاجقة و على رأسهم طُغرل بيك فهو بدأ حملته صوب غرب خراسان منذ سنة 429 ه فاستولى‌ على بلخ و جرجان و طبرستان و الخوارزم، و خلال فترة سنة 433 ه و لغاية 437 ه مدّ نفوذه و سلطانه على بلاد الجبل و همدان و الرّي و دينور و حُلوان و أصفهان، و في سنة 477 ه (1055 م) دخل بغداد فاتحاً، و هكذا فتحت بدخول قواته صفحة جديدة من تاريخ مدينة السلام. و كان المستهدف الأول من بين أهداف السلاجقة هم الشيعة و مدارسها و دور علمها و أعلامها، و في سنة 448 ه اشتدت الفتن و بلغ العنف و القتل و الإِحراق ذروته، و بعد ان أُحرقت دور الشيعة و بعض محالّها وصلت النوبة إلى الشيخ الطوسي فقد كُبست داره و نُهبت و أُحرقت، كما و أُحرقت كتبه و آثاره و دفاتره، و أُحرق كرسي التدريس الّذي كان قد منحه إياه الخليفة العباسي القائم بأمر اللَّه، و قُتل أبو عبد اللَّه الجلاّب (و هو من علماء الشيعة) على باب دكانه. و كانت الخلافة العباسية و أجهزتها عاجزة عن إقرار الأمن و النظام إذ كانت آنذاك في ضعف و تدهور حيث فقدت هيبتها و سلطانها على النفوس، هذا فضلاً عن انّ بعض السلفيين المتشددين [ 27 ] كانوا يستفيدون من الخلاف و الفرقة بين عناصر المجتمع إذا هم ما لمسوه من تقارب نسبي بين الطوائف المسلمة، فجنّدوا أنفسهم لتعكير صفو الأمن، و أظهروا كل ما تكنّه نفوسهم من تعصب ضد خصومهم في المذهب، فاعتدوا على رجال العلم، و عرّضوا قسماً مهماً من التراث الإسلامي إلى الضياع بإحراقهم المعاهد و دور الكتب و العلم«».***
3 - الأوضاع الاجتماعية و السياسية في بغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري كان القرن الخامس الهجري عصر انهيار سياسي بالنسبة إلى‌ بغداد عاصمة الخلافة العباسية، و لكنّه في الوقت ذاته كان عصر نضجٍ فكريّ، فقد احتضنت هذه المدينة نخبة صالحة من كبار المفكرين و شيوخ المحدثين و أماثل العلماء و المتكلمين و منهم شيخنا الطوسي الّذي دخلها سنة 408 ه، و قد صوّر الباحث الفاضل حسن عيسى الحكيم في كتابه القيّم «الشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن» هذه الحقبة الزمنية و التي تبدأ بسيطرة البويهيين على العراق و ينتهي بدخول طُغرل بيك إلى بغداد عام 447 ه خير تصوير حيث يقول:
تميّز العصر الّذي نتحدث عنه بظاهرة الصراع الفكري بين أرباب [ 28 ] المدارس الكلامية و الفقهية، و كان يتأرجح بين الحُرّية و التزمّت تبعاً لموقف السلطة الفعلية منه، و كان أهم مظهر له هو الصراع بين النزعة السَّلفية و النزعة العقلية، و ربما انعكس هذا الصراع على الواقع العملي للناس، و كانت السلطة في الخلافة العباسية قد انحازت - خصوصاً منذ عصر المتوكل على اللَّه (247 - 232 ه) - إلى الاتجاه السَّلفي المتشدد، و أخذت تضطهد الفئات الأُخرى‌ المخالفة له و في مقدمتها المعتزلة و الشيعة و مَن على شاكلتهم ممن له ميول فلسفية و نزعة إلى التوفيق بين أحكام العقل و أحكام الشرع، و قد انتهز السَّلفيون المتشددون فرصة موقف الخلافة هذا فزادوا في تقوية نفوذهم، و صاروا يفرضون آراءهم على الناس بالقوة، و يتدخلون في كلّ صغيرة و كبيرة، سواءً ما يتعلق بشئون الأفراد أم الدولة، حتى كانوا حكومة داخل حكومة، فزالت هيبة الدولة و وقعت الفتن و الاضطرابات داخل الدولة مما أدّى إلى‌ استقلال الأُمراء بأطرافها و أجزائها، و لم يبق للخليفة العباسي سوى بغداد و نواحيها ما بين دجلة و الفرات، فاضطرَّ الخليفة المستكفي باللَّه العباسي (334 - 333 ه) إلى‌ دعوة البويهيين لتسلم السلطة في العراق، و وضع حدٍّ للارتباك و الفوضى، و التَّخلص من نفوذ الأتراك، و كان البويهيون آنذاك قوة نامية في شرق مملكة الإسلام. و دخل البويهيون بغداد سنة 334 ه فسلكوا سبيلاً وسطاً تجاه جميع الميول و الاتجاهات و الفِرَق فلم يتحزبوا لفئة معينة على حساب فئة أُخرى، و لم ينحازوا إلى رأي خاص، بل تركوا الناس أحراراً في معتقداتهم و آرائهم، ذلك إنهم كانوا يُدركون أنهم رجال دولة، و أرباب سياسة، و أنّ همّهم الأكبر يجب أن يتّجه إلى إقرار الأمن [ 29 ] و النظام. و يدلّ على ذلك أنهم على الرَّغم من كونهم شيعة كانوا يفرضون أوامر مشدّدة على هذه الطائفة التي يلتقونها في الانتماء المذهبي لحدّ منعهم من إقامة شعائرهم الدينية«»تلك التي قد تُسبب إثارة الحزازات، و نشوب الفتنة، و قد نفوا من بغداد الشيخ المفيد و هو فقيه الشيعة في ذلك الوقت فغادرها في عامي 393 ه و 398 ه بعد الحوادث الطائفية«». و مع أنّ البويهيين كانوا شيعة إلاّ أنهم لم يحاولوا تسليط أبناء مذهبهم على أهل السُّنة، و الّذي مكّن البويهيين من الاستقرار و الأمن في البلاد سياستهم الحكيمة المتسامحة تجاه جميع السكان، فهدأت الأحوال، و استقرّت الأمور في أغلب الأوقات، و انصرف الناس إلى‌ العمل من أجل ترقية الحياة المادّية و الرُّوحية، و عادت بغداد كعبة العلم و الثقافة على النحو الّذي كانت عليه في العصر العباسي الأوّل (232 - 132 ه) أيام خلافة المأمون. و الواقع أنّ المجتمع الإسلامي خطا في العصر البويهي خطوات واسعة في مضمار التقدم العلمي لا زالت آثاره باقية حتى الوقت الحاضر، و لهذا اعتُبر من أزهر العهود الثقافية في هذه البلاد لإِطلاق الحُرية الدينية، و الحُرية الفكرية، و الحُرية القلمية، و قد تميَّز بذلك بوجه خاص عضد الدولة (372 - 367 ه)، و هذه الحُرّيات كانت السبب في كثرة من نبغ في العلوم و الآداب في ذلك العصر من مختلف المذاهب الإسلامية أمثال:
الكليني، و ابن قولويه، و الصدوق، و الشيخ المفيد، و الشريف الرضي، و الشريف المرتضى، و الشيخ الطوسي، و الكثير من شيوخ المذاهب [ 30 ] الإِسلامية و الفرق الكلامية أمثال: الماوردي، و الشيرازي الفيروزآبادي، و إمام الحرمين الجُويني، و الباقلاني و أبو الحسين البصري، و ابن الصّباغ الشافعي، و الدامغاني الحنفي، و أبو الوفاء البغدادي الحنبليّ، و غيرهم من العلماء الذين عجّ بهم القرن الخامس الهجري. و الواقع أنّ رجال الفكر و العلم كان الكثير منهم في عهد الدولة البويهية في مأمنٍ من الفوضى و الاضطرابات. كما و امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي و الأدبي بتأثيرهم الخاصّ أو بتأثير وزرائهم، إذ كان بيت الوزير بمثل مدرسة بل جامعة تحوي ألواناً مختلفة من الثقافة و ضروباً من العلم و الأدب، و كانوا لا يستوزرون أو يستكتبون إلاّ العلماء و الشعراء و الكتّاب«»، و قد لعبت دُور العلم ببغداد دَوراً مهماً و بارزاً في إنعاش الحركة الفكرية، منها «دار العلم» التي شيّدها الوزير البويهي أبو نصر بن سابور بن أردشير في سنة 381 ه، و كان فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد، و بقيت هذه المكتبة تؤدّي دورها في خدمة العلم و الفكر حتى عام 451 ه حيث احترقت عند دخول طغرل بيك بغداد. و أنشأ الشريف المرتضى ببغداد داراً أُخرى سمّاها «دار العلم» و كانت دار علمٍ و دراسةٍ و سكن للطلاب، و ألحقَ بها خزانة كتب حافلة و كبيرة«».
و هكذا غدت هذه المدينة خلال القرنين الرابع و الخامس للهجرة مركزاً مهماً من مراكز العلم و الثقافة و مبعث الحرية الفكرية.
و قد تعكَّر صفو هذه الحرية مرات عديدة بسبب الأحداث الطائفية [ 31 ] التي كانت تثيرها الحنابلة غالباً، إلاّ أنّ السّمة الغالبة لهذه الفترة هي الهدوء و الأمن، لكن حدثت الانتكاسة الخطيرة و القاضية في العقد الرابع من هذا القرن و ذلك حينما دخل طُغرل بيك السلجوقي بغداد بقواته و احتلها و طرد منها البساسيري. و نتج عن ذلك رجحان كفة السلفيّة و الحنابلة و دعاة طرد العقلائية، فهجموا على دُور العلم، و المكتبات العامة، و المدارس، و مجالس النّظر و المناظرة، فأحرقوها و قتلوا جماعة و هدّموا بعض دروب محلة الكرخ - و التي كانت تسكنها أغلبية شيعية - و هكذا و بدخول طغرل إلى‌ بغداد سنة 447 ه انتهى العهد الذهبي الثاني لبغداد و إلى‌ الأبد، ففرَّ الكثيرون إلى‌ أماكن أُخرى نجاةً بأرواحهم من القتل، و منهم الشيخ الطوسي حيث فرّ إلى‌ النجف الأشرف بعد حوادث العنف التي حدثت في بغداد عام 448 ه، و في نهاية المطاف يمكن أن نُلخّص أسباب سقوط بغداد و نهاية عهدها الذهبي و خسران الشيعة لبغداد كمركز ديني و ثقل سياسي لها إلى‌ العوامل التالية:
1 - ضعف الدَّيالمة و تفرّقهم و صراعهم الداخليّ.
2 - ازدياد العُنصر التركي و نفوذهم و ميلهم إلى السلفيّة.
3 - اجتماع السببين السابقين أدى إلى‌ حدوث اضطرابات خطيرة في عموم بغداد و خاصة المحلات الشيعية.
4 - ظهور السلاجقة في خراسان و توجههم نحو العراق أدّى إلى‌ زيادة الضغط على الشيعة و ارتفاع معنويات أعدائهم.
5 - ظهور حركة البساسيري (449 - 447 ه) بدعم من الخلافة الفاطمية [ 32 ] في مصر و بعض أمراء الشيعة في العراق، و ما أعقبها من خلع الخليفة و وزيره عميد الملك الكندري، و قيام دولة ذات ميول إسماعيلية في بغداد زاد من الضغط على الشيعة و أوقعهم في حرجٍ شديد، و تحميل قوياً أنّ الشيخ الطوسي هرب من بغداد لئلا يضطرّ إلى‌ تأييد البساسيري أو مماشاته، و حينما سحب الخليفة الفاطمي - بتحريض من الوزير المغربي - تأييده و دعمه من البساسيري خَمَدت حركته و قُتل على‌ أيدي جنود طُغرل.***
4 - خصائص مدرسة الشيخ الطوسي في بغداد سبق لنا في الصفحات السابقة أن تحدّثنا عن القابليات الفذة للشيخ الطوسي حيث تمكَّن خلال فترة قصيرة بعد دخوله إلى‌ بغداد من الالتحاق بمدرسة الشيخ المفيد، و صار من أعلامها و المبرّزين فيها، و قد اعتنى‌ به شيخه المفيد و خصَّه بنفسه و أودعه مواهبه و علمه، و لا يخفى أنّ الذهبي - و هو من ألدّ أعداء المفيد و عامة من ينتهي إلى‌ مذهب أهل البيت عليهم السلام - قال في وصفه: «كان أوحد زمانه في جميع فنون العلم الأصلين الفقه و الأخبار، و معرفة الرّجال، و التفسير، و النحو، و الشعر، و كان يُناظر أهل كلّ عقيدة مع العظمة في الدولة البويهية... كان مُديماً للمطالعة و التعليم و مِنْ أحفظ الناس، قيل إنّه ما ترك للمخالفين كتاباً إلاّ و حفظه و بهذا قَدر على حلّ شُبه القوم، و كان مِنْ أحرص الناس على التعليم، يدور على المكاتب و حوانيت الحاكة فيتلمّح الصبيّ الفَطن فيستأجره من [ 33 ] أبويه - يعني فيضلّه - و بذلك كثرت تلامذته»«»، فلا بدّ أنّ المفيد فطن في هذا الشاب القادم من خراسان ذكاءً نادراً و قدرة هائلة على تلقي العلم، فقرّبه إلى‌ نفسه و ربّاه خلال تلمذته عليه. و مراجعة سريعة للأجزاء الأولى‌ من كتاب (تهذيب الأحكام في شرح المقنعة) الّذي صنّفه في حياة شيخه المفيد يدلّ على علمه و قدرته على التصنيف و التفريع و إرجاع الفروع إلى‌ الأصول، و هذا الكتاب دليلٌ على أنّ المفيد اختار من بين تلاميذه - و بينهم من هو أسنّ من الطوسي و أسبق في التلمذة - أقربهم إلى نفسه و أقدرهم على شرح كلماته. و لا حاجة للإطالة في الحديث عن عظمة الطوسي و علوّ مقامه بل تكفي الإشارة إلى‌ أنّ كتابه هذا و الّذي ألّفه و لم يبلغ الثلاثين من عمره عُدّ من يوم تأليفه إلى‌ الآن أحد الأصول الأربعة الّذي يعوّل عليه الإمامية.
و ينبغي التنبيه على نقطة هامة أُخرى ألا و هي أنّ الشيخ الطوسي لم يتخصص في فرع من فروع العلوم الإِسلامية، بل استوعب جميعها و فاق فيها، و قد انعكست هذه الميزة على مدرسته، و يمكن لنا التركيز على المميزات الهامة لمدرسة الطوسي في بغداد و هي:
1 - تغييره للمنهجية التي كانت متبعةً عند الإمامية و هي المنهج و الأسلوب الروائي حيث كان الحديث عماد أبحاثهم في الفقه و الأُصول و التفسير و غيرها فقد أدخل الشيخ الطوسي عنصر العقل و الأدلّة العقلية في تفسير الروايات و رفع التعارض بينها، و من الملفت أن اعتماده على العقل و الأدلة العقلية لم يكن على حساب النقل أو التقليل من أهميته في [ 34 ] عملية الاستنباط، بل جعلهما ركيزتان للوصول إلى‌ نتائج مرضية دون الإخلال بجوهر العقيدة.
2 - و من نتائج و آثار تغيير الشيخ للأسلوب الروائي هو اعتماده المتزايد على علم أُصول الفقه حيث استلزم ذلك أن يطّور هذه القواعد التي كانت موجودة عند الإمامية لكنها لم تتطور لعدم ممارستها، بخلاف المذاهب السنّية التي كانت قد عملت بها لمدة قرنين قبل أن تتداول عند الشيعة، فكان من نتائج هذا التطور أن خلق الشيخ الطوسي كتابه الأصولي الخالد (العُدَّة في أُصول الفقه) و لعله أول كتاب مبسوط في هذا العلم عند الإمامية.
3 - إنّ تعدد المذاهب و اختلاف الطوائف و تنافسها في بغداد خلق أجواءً علمية منقطعة النظير و تسبّب في تطور علم الكلام الّذي برع فيه الإمامية و المعتزلة، و كان الشيخ المفيد و تبعه الشيخ الطوسي من المتكلمين البارزين الذين لا يجاريهما أحدٌ، و في هذه الأجواء اضطر الشيخ الطوسي إلى‌ ممارسة علم الكلام في مدرسته، و لم يقتصر في ذلك على الأبحاث الكلامية، بل استعمله في أغلب أبحاثه الفقهية و الأُصولية و التفسيرية و غيرها، ثم تطور بعد ذلك، و نتيجةً للحاجة الملحة التي كانت تطلبها أجواء بغداد و المدارس الفقهية المتنوّعة فيها اضطرّ الشيخ الطوسي إلى‌ إدخال عنصر آخر في أبحاثه و مدرسته ألا و هو الفقه المقارن، و الأُصول المقارن، و قد برع الشيخ في هذا المجال أيضا و أبدى استعداداً فائقاً فخلّف لنا في مجال الفقه المقارن كتابه الخالد (كتاب الخلاف) حيث بسّط فيه الكلام عن الفقه الإمامي و قارنه مع آراء معظم [ 35 ] المذاهب الفقهية السُنّية، فكان في عرضه لآراء المذاهب السُّنية دقيقاً و صادقاً لا تفوته حتى أقوالهم النادرة و فتاواهم الشّاذة.
4 - مما امتاز به‌ الشيخ الطوسي هو قدرته الفائقة و الفريدة في طرح أفكاره الجديدة و آرائه المتميزة على طلابه في مجالس درسه، و على الآخرين من خلال تراثه المكتوب، فقد كان للشيخ الطوسي أسلوباً و بياناً متميزاً و فريداً جعله محطّ أفئدة طلابه حيث كان يسحرهم ببيانه، و يأخذ بألبابهم، و يقودهم إلى حيث كان يريد، و يفرض عليهم بقدراته العلمية الفائقة و سعة معلوماته في جميع المجالات آراءه و أفكاره، و مراجعة متعمقة و دقيقة لتراثه تكفي للوقوف على جانب من قدرات الشيخ الهائلة ألا و هو تمكنه من تصنيف المسائل و استقصاء كل ما يتعلق بمسألة معينة و دعمها بأدلّة نقليّة و عقليّة و دحض أدلّة المخالفين بردود عديدة بحيث لا تقوم لهم بعدها قائمة، بحيث لا يبقي في النهاية مجالاً أمام القارئ إلاّ الاستسلام و الخضوع لمنطقه العلمي القويم.
و كانت هذه الميزة هي السبب في انبهار فقهاء الشيعة امام فتاوى الشيخ الطوسي و عدم جرأتهم على مخالفته مما أدّى إلى‌ انغلاق باب الاجتهاد عندهم - كما قيل و سمّوا فقهاء هذه الفترة بالمقلّدة - مدة قرن من الزمن أي منذ وفاة الشيخ الطوسي سنة 460 ه و حتى بزوغ نجم الفقيه الشيعي الكبير أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي (المتوفى سنة 598 ه) حيث تمكن هذا الفقيه من كسر طوق التقليد و أعاد إلى‌ مدرسة الإمامية روح الاجتهاد و التجدد.
5 - و مما تمتاز به مدرسة الشيخ الطوسي ببغداد هو النشاط [ 36 ] و الحيويّة التي كان الشيخ يتمتع بهما، فقد جدّ الشيخ و دأب و نشط نشاطا منقطع النظير فكان لا يتوانى‌ و لا يكلّ عن إلقاء الدروس و المحاضرات في مختلف العلوم الإسلامية و الكتابة عنها و تربية الطلاب و تنشئتهم، فخلال فترة أربعة عقود (448 - 408 ه) أنتج الشيخ 45 مؤلفاً، و ربّى عشرات الطلاب، و ساهم مساهمة جليلة في تنمية الحضارة الإسلامية ببغداد في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، لكن بعد أن هوجم الشيخ في داره و نُهبت كُتُبه و أُحرق كرسيّه و نجا بنفسه و لجأ إلى‌ النجف الأشرف خَبَتْ تلك الشُّعلة الوهاجة، و أُطفئت إشعاعاته الفكرية، و اقتصر نشاطه على إلقاء بعض المحاضرات - و في فترات متباعدة - على مجموعة صغيرة من الطلاب، و تلك المحاضرات لم تكن من حيث الشمول و السعة و التنوع كما كانت ببغداد. و خلال السنوات الاثنتي عشرة التي قضاها الشيخ في النجف لم يؤلف سوى كتابين - إن صدقت التسمية - الأول و هو كتاب «اختيار معرفة الرّجال» حيث لخّص كتاب «رجال الكشي»، و تأليفه هذا لا يعدو تلخيصاً و تهذيباً لكتاب الكشّي دون أن يُضيف إليه الشيخ من نفسه شيئاً، و الآخر كتاب «الأمالي» و هو عبارة عن مجموعة الروايات التي كان الشيخ يقررها على مستمعيه و أغلبها روايات في فضائل أهل البيت - عليهم السلام - سمعها الشيخ من مشايخه ببغداد و قد جمع معظمها ولده الشيخ أبي علي الطوسي - رحمه اللَّه - و يتحدث الباحث حسن عيسى الحكيم عن هذه الفترة بقوله: (و يلاحظ الدارس ظاهرة غريبة في حياة الشيخ الطوسي في الفترة الأخيرة التي عاشها في النجف الأشرف و خلص فيها كلياً للدرس و المحاضرة، هي قلة إنتاجه الفكري رغم أنّها فترة امتدت نحو اثني عشر عاماً... و لعل هذا ناتج من قناعته لكفاية [ 37 ] الفكرية في بغداد)«».
6 - برغم النشأة الفارسية و المحتد غير العربي للشيخ الطوسي، فان الملاحظ في سيرته الذاتيّة، و خاصة بعد هجرته إلى‌ العراق انصهاره و ذوبانه في الثقافة العربية الإسلامية، فبرغم أنّ مدينة السلام كانت في تلك الأزمنة مدينة تعجُّ بمختلف المذاهب و القوميات و الملل، و برغم أنّ العنصر الفارسي كان من أهم العناصر الناشطة في بغداد، إلاّ أنّ الغلبة كانت للعنصر العربي و للثقافة العربية الإسلامية، و هذا ما أدّى إلى أن يصطبغ - قليلاً أو كثيراً - كلّ من دخل إلى بغداد بالصبغة العربية و أن تصير الثقافة العربية الإسلامية جزءاً من كيانه و مقوماته كما هو الحال بالنسبة إلى معظم أعلام الفكر و الثقافة ببغداد من الفرس أو ممن انحدروا من أُصول فارسية، إلا أنّ الملاحظ أنّ الشيخ الطوسي بالرغم من أنّه وُلد بطوس و هي قاعدة هامة من قواعد العنصر الفارسي حيث وُلد و نشأ و ترعرع فيها الفردوسي - أعظم شاعر فارسي على الإطلاق و صاحب أكبر ملحمة فارسية و هي (الشاهنامه كتاب الملوك) - لكن الشيخ الطوسي حين دخل مدينة السلام ارتبط بمجموعة من مشايخه الأعلام من العرب أو المستعربين الذين أنسوه الفارسية و ثقافتها فهجرهما نهائياً و لم يعد إليهما إلى حين وفاته، فدرّس، و ناظر بالعربية، و كتب جميع مؤلفاته بها حيث لم يُعهد له كتاب أو رسالة باللغة الفارسية.***
[ 38 ]
3 - الشيخ الطوسي في النجف الأشرف تعدّ هذه المرحلة الأخيرة في حياة الشيخ الطوسي - رحمه اللَّه - حيث امتدت فترة اثني عشر عاماً (460 - 448 ه) و كانت النجف حين هاجر إليها الشيخ قرية صغيرة نائية على مشارف البادية و ليس ما يُغري أحداً بالبقاء فيها إلاّ مثوى الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - عليه أفضل الصلاة و السلام - فاختار الشيخ داراً بالقرب من المقام الشريف، فاجتمع حوله جماعة صغيرة من الطلاب بعضهم من الهاربين و ممن نجوا بأرواحهم من أحداث بغداد، و آخرون جذبتهم شهرة الشيخ و صيته، و هكذا وضع الشيخ اللَّبِنات الأولى‌ للمدرسة التي بقيت تشع لمدة عشرة قرون و لا زالت إلى‌ أن يشاء اللَّه. و قد واجه الشيخ الطوسي في النجف ظرفاً غير الّذي كان قد ألفه ببغداد، و ينبغي لنا أن نتعرض للحياة و الظروف التي واجهها الشيخ في النجف حيث كان له الأثر البالغ في منحى‌ حياته و أسلوب دراسته و خصائص مدرسته و مستقبلها.
[ 39 ] واجه الشيخ الطوسي بعد هجرته إلى النجف الأشرف عام 448 ه ظروفاً جديدة تختلف من أوجه عدة عن ظروف بغداد منها خلو النجف من تنافس مذهبي، و صراع فكري، و عدم وجود طبقة من كبار العلماء الذين يرتكز عليهم فن المناظرة و الجدل، و الهدوء الّذي تمتعت به النجف بفضل ابتعادها عن التيارات السياسية، كل هذه الأمور أتاحت للشيخ الطوسي فرصة العمل بحريّة كاملة، فأنشأ في النجف مدرسة ذات خصائص، من أهمّها أن تكون الدراسة فيها ضمن حلقات يجتمع الشيخ فيها بتلاميذه و يُملي عليهم معارفه في التفسير و الحديث و الرّجال و الفقه و الأُصول و غيرها، و قد قرأ بعض طلابه جميع تصانيفه بالغريّ و عند مشهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام و دوّنت أمالي الشيخ الطوسي التي كان يلقيها على تلاميذه بكتاب يعرف اليوم «بأمالي الشيخ الطوسي» الّذي احتوى على عدد مما يدور في تلك المجالس من أحاديث متنوعة.
فبناءً على ما ذكرناه نستطيع أن نعدّ مدرسته الشيخ في النجف من المدارس المسجدية و ليس من المدارس المستقلة عن الجوامع.
و من الخصائص البارزة الأُخرى لمدرسة النجف العلمية أنها آحادية المذهب تقوم فقط بتدريس علوم آل البيت عليهم السلام، و لم يكن ما ينافس المذهب الجعفري من المذاهب الإسلامية الأُخرى‌ في النجف و لذا اختلفت هذه المدرسة عن مدارس بغداد المعاصرة لها إذ كانت بعضها ثنائية المذهب أو أكثر، و قد أخذت مدرسة النجف منذ عام 448 ه في التقدم و التوسع حتى أصبحت أوسع و أهم جامعات [ 40 ] العالم الدينية«»، و لعل الحوزة التي ضمتها مدرسة النجف و التي أنشأها الشيخ الطوسي فيها كانت فتية لأنه في أغلب الظن قد انفصل الشيخ عن تلامذته و حوزته العلمية في بغداد بدليل أنّه لم يكن هربه من بغداد و لجوؤه إلى النجف اعتيادياً، بل كان فيه مطلوباً مطارداً«»و مبتعداً عن الفتن و الاضطرابات التي تجددت هناك. و عدا كتاب (الأمالي) فقد اختصر الشيخ الطوسي كتاب (اختيار الرّجال) و هذا الكتاب تهذيب لكتاب (رجال الكشي المعروف، و قد أخبرنا عنه الشيخ الطوسي بقوله: «هذه الأخبار اختصرتها من كتاب الرّجال لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز و اخترت ما فيها»«». و الظاهر أنّ الشيخ استمر في تدريسه و إلقاء محاضراته حتى أواخر حياته.
فيقول ابن شهريا ر الخازن - من تلاميذ الشيخ الطوسي «حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رحمه اللَّه بالمشهد المقدس الغروي و على ساكنه أفضل الصلوات في شهر رمضان من سنة ثمان و خمسين و أربعمائة»«»و بينما كان الشيخ الطوسي مشغولاً بإعداد كتابه (شرح الشرح) إذ وافته المنيّة فحالت دون إكماله.
يقول الحسن بن مهدي السليقي - من تلاميذ الشيخ الطوسي - (و إنّ من مصنفاته التي لم يذكرها في الفهرست كتاب (شرح الشرح) في [ 41 ] الأُصول، و هو كتاب مبسوط، أملى علينا منه شيئاً صالحاً، و مات و لم يتمّه، و لم يصنّف مثله)«».
و يلاحظ الدارس ظاهرة غريبة في حياة الشيخ الطوسي في الفترة الأخيرة التي عاشها في النجف الأشرف و خَلُص فيها كلّياً للدرس و المحاضرة، هي قلة إنتاجه الفكري رغم أنّها فترة امتدت نحو اثني عشر عاماً و لم نعرف له من الكتب خلالها سوى (الأمالي) و (اختيار معرفة الرّجال) و (شرح الشرح) الّذي شرع بتأليفه دون أن يتمه، و لعلّ هذا ناتج عن قناعته بكفاية إنجازاته الفكرية في بغداد إذ هو بما تميزت به آثاره من غزارة و تنوع قد شارك بكثير من الأصالة و الإبداع و التجديد في تحديد الاتجاه العام للثقافة الإسلامية في زمنه و تحديد مستقبلها كذلك. و قد بقيت آراء الشيخ الطوسي في القضايا الرئيسية الفقهية و الأصولية تتمتع بنوع من الإكبار لدى الأُصوليين و الفقهاء دهراً طويلاً، و قد تحاشى العديدون الخروج عليها أو نقضها إلاّ بعد أجيال عدّة و قد اتسمت محاولاتهم هذه بالجُرأة«».
و يستفاد من تتبع تواريخ محاضرات الشيخ الطوسي و التي دوّنت في كتابه (الأمالي) أنّه قد ضَعُفت قوى الشيخ، و حَلَّ به الوهن في السنتين الأخيرتين من عمره الشريف، فآخره محاضرة للشيخ (هذا بناءً على أنّ الأمالي يحتوي على آخر محاضرات الشيخ حيث يعدّ كتاب «شرح الشرح» مفقوداً) كان يوم التروية من سنة 458 ه و أملي فيها ثلاث روايات،.
[ 42 ] و قبلها محاضرته يوم 6 صفر سنة 458 ه و أملى فيها 4 روايات، و قبلها محاضرته في مجلس يوم الجمعة 3 ذي القعدة سنة 457 ه أملى فيها 5 روايات، فالبعد الزمني الشاسع بين هذه المجالس فضلاً عن قلة الروايات التي أملاها الشيخ على مستمعيه بالقياس إلى مجالسه السابقة التي كان يملي فيها عشرات الأحاديث و في فترات متقاربة خير دليل على ما قلناه.
و أخيراً توفي الشيخ الطوسي - رحمه اللَّه تعالى - ليلة الإثنين الثاني و العشرون من محرم سنة 460 ه - كما هو المتفق عليه عند مترجمي الشيخ من الإمامية - عن خمس و سبعين سنة، و تولى غُسله و دفنه عدد من تلاميذه كالشيخ حسن بن مهدي السليقي، و أبي محمد الحسن بن عبد الواحد العين زربي، و الشيخ أبو الحسن اللؤلؤي، و دُفن في داره بوصية منه، ثم تحولت الدار بعده مسجداً - حسب وصيته - فصار من أشهر مساجد النجف الأشرف حيث عُقدت فيه منذ تأسيسه حتى اليوم عشرات حلقات التدريس مِنْ قبل كبار علماء الشيعة و مجتهديهم، و ظلّ قبر الشيخ طيلة القرون العشرة الماضية مزاراً يتبرك به عامة الناس«». و بقيت الجامعة الإسلامية و الحوزة العملية التي أسسها الشيخ حيّة، نابضة، فعّالة، تمدّ العالم الإسلامي بمجموعة صالحة من العلماء الاعلام، و كان الشيخ أبي على الطوسي أول من سدّ الفراغ الّذي أحدثته وفاة أبيه في النجف الأشرف فتولّى الحفاظ على استمراريتها و بقائها (و كانت الرحلة إليه و المعول عليه في التدريس و الفُتيا و إلقاء الحديث و غير ذلك من شئون [ 43 ] الرئاسة العلمية)«»، و هكذا استمرت نشاطات الجامعة بعده و طوال القرون العشرة الماضية، فنمت و تطورت الدراسات فيها، و برغم تأسيس مدارس و حوزات علمية شيعية كبيرة في أنحاء أُخرى من البلدان الإسلامية كمدرسة الحلب، و الحلة، و جبل عامل، و أصفهان، و خراسان، و شيراز، و الأحساء، و البحرين، و كربلاء، و سامراء، و أخيراً قم، و كانت بعض هذه الحوزات تحتضن المرجعية الشيعية العليا في بعض الفترات، لكن ظلت جامعة النجف الدينية لها سحرها الخاصّ تجذب إليها أفئدة الأُلوف من طلاب العلوم الدينية و لا زالت إلى أن يشاء اللَّه تعالى.***
[ 44 ]
4 - تلاميذ الشيخ الطوسي لا نملك معلومات دقيقة عن السنة التي فيها بدأ الشيخ إلقاء محاضراته و دروسه ببغداد، و برغم انه كان مؤهلاً لأن يتصدر حلقة طلابه و يلقى عليهم دروسه بعد وفاة الشيخ المفيد، لكن لم تصلنا معلومات تفيد حصول ذلك، و لعل الشيخ كان متفرغاً للاستزادة من العلوم خاصة أيام زعامة الشريف المرتضى (413 - 336 ه)، حيثُ لحق به، و لازمه ملازمة قريبة، و كان من المقربين عنده، و المؤيّدين لزعامته، و يُستبعد أن لا يكون للشيخ طلابٌ أو حلقة دراسية في هذه الفترة الطويلة التي دامت ثلاث و عشرين سنة، خاصة إذا لاحظنا أنّ الشيخ كان مؤهلاً لذلك في بداية هذه الفترة، و يكفي للدَّلالة على أهليته أنّه شرع تصنيف كتابه (تهذيب الأحكام) في حياة شيخه المفيد و أكمله بعد وفاته، و الكتاب بنفسه كافٍ لإبراز شخصيته العلمية و تبحره في الفقه. و في كل الأحوال فانّ الشيخ تصدّر زعامة الإمامية عام 436 ه، فصار شيخ الطائفة، و زعيمها، و معلّمها [ 45 ] الأول، فتقاطر الطلاب إليه، و تحلّقوا حوله يستزيدون من علومه، ثم بعد ذلك حينما هاجر إلى النجف الأشرف عام 448 ه استمر فيها بالتدريس إلى حين وفاته، فخلال هذه الفترة التي استمرت مدة ربع قرن تتلمذ على الشيخ مئات الطلاب، لكننا لم نعثر على أسمائهم في كتب التراجم و الرّجال إلاّ قلة قليلة لا تتعدى أسماء ثلاثين أو أربعين من مشاهيرهم، و هؤلاء ينقسمون، إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ يعدّون من طلابه ببغداد، و آخرون في النجف الأشرف، و قسم ثالث يُشك في تلمذتهم على الشيخ نفسه و لعل بعضهم تتلمذ على ولده الشيخ أبو على الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي. و إليك أسماؤهم:
القسم الأوّل:
1 - آدم بن يونس بن أبي المهاجر النَسَفي.
2 - أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري (ت 480 ه)
3 - إسحاق بن محمد بن بابويه القُميّ
4 - إسماعيل بن محمد بن الحسن بن بابويه القميّ (ت 500 ه)
5 - بركة بن محمد بن بركة الأسدي
6 - تقي بن نجم الحلبي المكنّى بأبي الصلاح الحلبيّ (ت 447 ه)
7 - جعفر بن علي بن جعفر الحسيني
8 - الحسن بن عبد العزيز بن الجبهاني
9 - الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي (توفي حدود سنة 515 - 511 ه)
10 - السيد ذو الفقار بن محمد بن معبد الحسيني المروزي [ 46 ]
11 - زيد بن علي بن الحسين الحسيني
12 - السيّد زيد بن الدّاعي الحسيني
13 - سليمان بن الحسن بن سلمان الصهرشتي
14 - صاعد بن ربيعة بن أبي غانم
15 - عبد الرحمن بن أحمد النيسابوري
16 - عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز البرّاج (ت 481 ه)
17 - علي بن عبد الصمد التميمي السبزواري
18 - غازي بن أحمد بن أبي منصور السّاماني الكوفي
19 - كُرد بن عُكْبَر بن كُردي الفارسي الحلبيّ
20 - محمد بن عبد القادر بن محمد أبو الصَّلت
21 - محمد بن علي بن الحسن الحلبيّ
22 - محمد بن هبة اللَّه بن جعفر الورّاق الطرابلسي
23 - المُطَّهر بن أبي القاسم علي بن أبي الفضل الديباجي
24 - منصور بن الحسين الآبي (ت 422 ه)
25 - ناصر بن عبد الرضا بن محمد بن عبد اللَّه العلوي الحسيني القسم الثاني:
1 - الحسن بن الحسين بن بابويه القُميّ المشهور بحَسَكا (ت 512 ه)
2 - الحسن بن مهدي السليقي العلوي
3 - الحسين بن المظفر بن علي الحمدانيّ أو الهمداني
4 - عبد الجبار بن علي النيسابوري المُقري (ت 506 ه)
[ 47 ]
5 - محمد بن أحمد بن شهريار الخازن
6 - المنتهى بن أبي زيد بن كَيابكي الحسيني الجرجاني القسم الثالث:
1 - أبو الحسن اللؤلؤيّ (كان أحد الذين تولوا تغسيل الشيخ الطوسي و دفنه)
2 - الحسين بن الفتح الواعظ البكرآبادي الجرجاني
3 - الشيخ شهرآشوب المازندراني السَرَويّ
4 - أبو محمد بن الحسن بن عبد الواحد العين زربي (كان أحد الذين تولوا تغسيل الشيخ الطوسي و دفنه)
5 - محمد بن الحسن بن علي الفتّال الفارسي (ت 508 ه)
6 - محمد بن أبي القاسم الطبريّ الآملي (ت 525 ه)
7 - محمد بن علي بن حمزة الطوسي المشهدي
8 - محمد بن علي بن عثمان الكراجكي (ت 449 ه)
9 - عبيد اللَّه بن الحسن بن بابويه القُميّ (ت 442 ه)***
[ 49 ] ثانياً: تراث الشيخ الطوسي يُعدّ الشيخ الطوسي من النوابغ الذين أحاطوا بمجموعة من العلوم إحاطة تامة و كاملة بلغ منتهاها و غايتها، فألّف في جميع أصناف العلوم و صارت تصانيفه المنبع الأول و المصدر الوحيد لمعظم المؤلفين في القرون اللاحقة، لأنّها كانت تحتوي على الأُصول القديمة المفقودة و إضافات الشيخ و إبداعاته، و قد صنّف الشيخ في كافة العلوم الإسلامية و خلّف بذلك تراثاً ضخماً استفاد منه الشيعة خلال القرون العشرة الماضية و لا زال. و للدلالة على أهمية مصنفات الشيخ الطوسي يكفي أن نُشير إلى أن الشيعة تمتلك 8 أُصول، أربعة في علم الحديث و أربعة في علم الرّجال، و قد صنف الشيخ خمسة (2 في علم الحديث و 3 في علم الرّجال) من هذه الأصول الثمانية و هي: (التهذيب) و (الاستبصار) و (الفهرست) و (الرّجال) و (اختيار معرفة الرّجال). و أيضا يُعدُّ الطوسي منتهى إجازات علماء الشيعة في علم الحديث حيث أن انتشار و نقل [ 50 ] أحاديث الكتب الأربعة و غيرها في الأُصول القديمة يبدأ بالشيخ الطوسي و ينتهي إليه، فالشيعة تنقل روايات (الكافي) للشيخ الكليني - رحمه اللَّه - و (مَن لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق القمّي بأسانيد الشيخ الطوسي و طرقه إلى هذه الكتب، و جميعها مذكورة في كتبه الرجالية و مشيخته.
و إليك سرد مؤلفاته مرتباً حسب العلوم التي صنّف فيها و هي:«» ألف: علم الحديث
1 - تهذيب الأحكام: و هو أوّل تصنيف للشيخ ببغداد و يتضمن 13590 حديثاً و يُعدُّ أحد الأُصول الأربعة المعروفة عند الإمامية.
2 - الاستبصار فيما اختلف من الاخبار: و يحتوي على 5511 حديثاً.
ب: علم الفقه
1 - كتاب النهاية في مجرد الفقه و الفتاوي
2 - كتاب مسائل الخلاف
3 - كتاب المبسوط في الفقه
4 - كتاب الجُمَل و العقود في العبادات
5 - كتاب الإيجاز في الفرائض
6 - كتاب مسألة في تحريم الفقّاع [ 51 ]
7 - كتاب المسائل الجُنبلائيّة
8 - كتاب المسائل الدمشقية
9 - كتاب المسائل الحائرية
10 - كتاب مسألة في وجوب الجزية على اليهود ()
ج: علم الكلام
1 - كتاب المُفصِح في الإمامة
2 - كتاب تلخيص الشافي في الإمامة
3 - كتاب مختصر ما لا يسع المكلف الإخلال به
4 - كتاب ما يُعلّل و ما لا يُعلّل
5 - كتاب مقدمة في المدخل إلى علم الكلام
6 - كتاب شرح مقدمة في المدخل إلى علم الكلام (قيل إن اسمه رياضة العقول)
7 - كتاب مسألة في الأحوال
8 - كتاب شرح ما يتعلق بالأُصول من جُمل العلم و العمل (تمهيد الأصول)
9 - كتاب المسائل الرازية في الوعيد
10 - كتاب المسائل في الفرق بين النبيّ و الإمام
11 - كتاب النقض على ابن شاذان في مسألة الغار
12 - كتاب الاقتصاد فيما يجب على العباد
13 - كتاب الغيبة [ 52 ]
14 - كتاب في الأصول كبيرٌ خرج منه الكلام في التوحيد و بعض الكلام في العدل
15 - كتاب الكافي في الكلام ()
16 - كتاب تعليق ما لا يسع ()
17 - كتاب مسألة في الحُسن و القبح ()
18 - كتاب ثلاثون مسألة كلامية ()
19 - كتاب اصطلاحات المتكلمين ()
20 - كتاب الاستيفاء في الإمامة ()
د: علم أُصول الفقه
1 - كتاب العُدّة في أُصول الفقه
2 - كتاب مسألة في العمل بخبر الواحد
3 - كتاب شرح الشرح ه: علم الرّجال
1 - كتاب الرّجال الذين رووا عن النبي و الأئمة الاثني عشر عليهم السلام و من تأخر عنهم
2 - كتاب فهرست كتب الشيعة و أُصولهم، و أسماء المصنفين منهم، و أصحاب الأصول و الكتب، و أسماء من صنّف لهم و ليس هو منهم
3 - كتاب اختيار الرّجال أو اختيار معرفة الرّجال المعروف برجال [ 53 ] الكشّي و: التفسير و علوم القرآن
1 - كتاب تفسير التبيان ()
2 - كتاب المسائل الرجبية في تفسير القرآن ز: الأدعية
1 - كتاب مختصرٌ في عمل يوم و ليلة
2 - كتاب مناسك الحج في مجرد العمل و الأدعية
3 - كتاب مصباح المُتهجد في عمل السُّنة
4 - كتاب أُنس الوحيد
5 - كتاب مختصر المصباح في عمل السُّنة
6 - كتاب هداية المسترشد و بصيرة المتعبد ج: التاريخ و الأخبار
1 - كتاب مختصر أخبار المختار بن أبي عُبيدة رحمه اللَّه
2 - كتاب المجالس في الأخبار (الأمالي)
3 - كتاب مقتل الحسين عليه السلام ط: الكتب المتفرقة
1 - كتاب المسائل الإلياسية، و هي مائة مسألة في فنون مختلفة [ 54 ]
2 - كتاب مسائل ابن البرّاج ()
3 - كتاب المسائل القُميّة ()***
[ 55 ] ثالثاً: دراسة حول كتاب (العُدَّة في أُصول الفقه)
1 - دور الشيعة في تأسيس علم أُصول الفقه يُعدّ أُصول الفقه من العلوم التي أبدعها فقهاء الإسلام، و هو علمٌ يُعطي الفقيه القدرة الكافية و اللازمة لاستنباط الأحكام الشرعية عن عدد معين من المصادر الشرعية. و يرجع تاريخ نشأة هذا العلم إلى القرون الهجرية الأولى، و بالتحديد فانه بعد وفاة الرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم أحسَّ الفقهاء بالخلل الّذي حصل لهم، حيث كان الرسول صلى اللَّه عليه و آله هو المرجع الأول و الأخير في بيان الأحكام الشرعية، و كان الصحابة لا يواجهون مشكلةً إلاّ و سألوا عنها الرسول صلى اللَّه عليه و آله فكانت تأتيهم الأجوبة وافية شافية، لكنهم بعد أن فقدوه عليه الصلاة و السلام أحسّوا بعظم المصيبة و فداحتها خاصة و أن الإسلام بدأ ينتشر و واجهوا مشاكل و مستجدّات لا بد من العثور على الجواب المناسب لها بحيث لا يتعارض مع الأصول الثابتة للإسلام. و من هنا انقدحت و برزت عندهم بذرة علم [ 56 ] الأُصول فبدأ فقهاء الصحابة بإعمال بعض القواعد الأُصولية المستقاة كالأدلة اللفظية و العقلية، و استعانوا في استخراج بعضها بالسُّنة النبوية الشريفة، فكانوا يحملون الأوامر الواردة في الكتاب و السُّنة على الوجوب و النهي على الحرمة، و يجمعون بين الخاصّ و العام بحمل العام على الخاصّ و تخصيصه، و المطلق على المُقيّد و تقييده، و العمل بظواهر الكتاب و السُّنة و حجيته ظاهرهما، و حمل المتشابه من الآيات على محكماتها، و الاعتماد على الإجماع، و خبر الثقة، و المتواتر، و غيرها من القواعد الأُصولية التي بدأت تتطور شيئاً فشيئاً كلما بَعُد المسلمون عن عصر الرِّسالة، و تطورت الأمور و الأحداث عندهم و واجهوا مشاكل و مستحدثات جديدة. و ينبغي التنبيه إلى نقطة هامة في تاريخ نشأة علم الأُصول و تطورها ألا و هو الفارق الزمني بين المذاهب السُّنية و الشيعة الإمامية في استعمال علم الأُصول و تطبيقه على الوقائع و الأُمور المستحدثة، فانه لا شك أن فقهاء العامة و مذاهبهم أقدم من الشيعة في استعمال القواعد الأصولية و تطبيقها و الاستفادة من معطياتها و ذلك لسبب بسيط و هو أن إبداع علم الأُصول جاء نتيجة (ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع و انفصالها عن ظروف النصوص الشرعية و ملابساتها، لأن الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الّذي يخلق الثغرات و الفجوات في عملية الاستنباط، و هذه الثغرات هي التي توجد الحاجة المُلحة إلى علم الأُصول و القواعد الأصولية)«»، فالعامة فقدوا بموت النبي صلى اللَّه عليه و آله مصدر التشريع فاضطروا للاعتماد على مصدر [ 57 ] آخر يستقي مادته من الكتاب و سنة الرسول صلى اللَّه عليه و آله و لا تتعارض معطياته مع القواعد العامة التي شرعها النبي صلى اللَّه عليه و آله، فبدءوا شيئاً فشيئاً بتطبيق القواعد الأصولية مثل تقديم الخاصّ على العام، و المقيد على المطلق، و حمل الأمر على الوجوب، و النهي على الحرمة، و الاعتماد على الإجماع و أقوال الصحابة، و القياس، و الاستحسان، و حجيّة الظواهر في ألفاظ الكتاب و السُّنة و غيرها، و مع تطور الأمور و الأحداث و تعقيدها و ابتعاد المسلمين عن عصر التشريع و الصحابة ازدادت صعوبة فهم ظواهر الآيات و الأحاديث فتطور علم الأُصول أكثر من ذي قبل و تتمثل قمة التطور في علم الأُصول في تلك العصور عند أهل السّنة بظهور كتاب (الرِّسالة) للشافعي الّذي عدّه أهل السُّنة أوّل مدوّنة في هذا العلم. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «و الجمهور من الفقهاء [من أهل السُّنة] يقرّون للشافعي بأسبقية بوضع علم الأُصول»«»ثم ينقل في كتابه الّذي وضعه عن حياة (الإمام الشافعي) عن فخر الدين الرازي قوله: «اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأُصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطق، و كنسبة الخليل ابن أحمد إلى علم العروض)«».
أمّا الشيعة الإمامية فانهم كانوا في غنىً عن هذه القواعد و استعمالاتها إلى بداية عصر الغيبة الكبرى (سنة 329 ه) لاعتقادهم بأنه و إن انتهى عصر التشريع بوفاة النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم و لكن الأئمة المعصومين عليهم السلام كانوا امتدادا له صلى اللَّه عليه و آله في بيان الأحكام و تبليغه [ 58 ] و تفسير القرآن و السُّنة و بيان المقصود من ظاهرهما، فكانت الإمامية مستغنيةً مدة قرنين و نصف عن قواعد علم الأُصول و معطياتها لسبب بسيط ألا و هو وجود المرجع و المصدر الّذي يمكن الركون إليه و الاعتماد عليه حين مواجهة المستحدثات، و هذا المرجع هو الإمام المعصوم.
و استمر استغناء الإمامية إلى حين غيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام حيث بدءوا بتطبيق القواعد الأُصولية التي كانوا قد أخذوها و تلقّوها عن الأئمة و لكنهم لم يطبقوها لعدم حاجتهم إليها حينذاك، و عند ذاك بدأ العصر التمهيدي في علم الأُصول عند الإمامية - بعد ان كانت العامة و أهل السُّنة قد اجتازت هذا العصر و خطت خطوات كبيرة في مجال تطبيق القواعد الأُصولية و دخلت عصر التصنيف - و هو عصر وضع البذور الأساسية و جمع شتات القواعد العامة الصادرة عن الأئمة عليهم السلام و التي كانت متفرقة في أبواب الفقه المختلفة، و يبدأ هذا العصر بعَلَمين من متقدمي أعلام الإمامية و هما: ابن أبي عقيل العُمّاني، و ابن الجنيد و ينتهي بظهور الشيخ الطوسي.
و الملاحظ هنا تقدم أهل السُّنة في تطبيق قواعد الأُصول و تأخر الإمامية في ذلك، لكن لا يعني تقدم أولئك و تأخر هؤلاء سبق الأول في إبداع علم الأُصول و انتسابه إليه حتى يعدّ الإمامية تابعاً لهم في ذلك، بل إنّ الإمامية أسبق من العامة في مجال وضع الأبحاث الأصولية و ان كانت العامة أسبق في مجال الممارسة و التطبيق بل و حتى تأليفٍ جامع مثل كتاب (الرِّسالة) للشافعي.
يقول الباحث الدكتور أبو القاسم گُرجي: «إنّ لعلم الأُصول أدواراً [ 59 ] تاريخية عديدة و لكلّ مرحلةٍ سماتها و مزاياها و خصائصها المعيّنة، و تختص بعض هذه المراحل التاريخية بأهل السُّنة و بعضها بالشيعة الإمامية و بعضها مشتركة بينهما، و أوّل هذه الأدوار هو مرحلة التأسيس حيث يصرّ أهل السُّنة على أنّ مؤسس علم الأُصول و واضعه هو الشافعي، يقول الشيخ أبو زهرة: (و الجمهور من الفقهاء يقرّون للشافعي بأسبقيته بوضع علم الأُصول).
أقول: ان الحقيقة تباين هذا الرّأي، فانه لو كان مقصوده من (وضع علم الأُصول) التأسيس و الإبداع فلا ينبغي الترديد في بطلان هذا الانتساب في أمثال هذه العلوم، لأن علم الأُصول علمٌ مركب من مسائل عديدة و من مواضيع و أبحاث شتى، ففيه أبحاث اللُّغة و الأدب و العلوم العقلية و بناء العقلاء و التعبد الشرعي و غيرها، فانتساب علم الأصول إلى واضعي هذه العلوم أصحّ و أولى من انتسابه إلى الشافعي، إذ كيف يُعقل أن ننسب إبداع و تأسيس قاعدة دلالة الأمر على الوجوب و النهي على الحرمة، و حكم العقل بحُسن الأفعال و قبحها، و العمل بخبر الثقة، و حجيّة الاستصحاب، و غيرها إلى الشافعي؟ و إن كان مقصوده من (وضع علم الأُصول) الكشف عن قواعده و تبيينها و تطبيقها في مجال الاستنباط، فانه و إن فرضنا صدق انتسابه للشافعي في بعض الموارد، لكن لا يمكن تعميمه على جميع قواعد علم الأُصول، لأنّه من المُتّفق عليه عند الجميع أنه بعد وفاة الرسول صلى اللَّه عليه و آله كانت جماعة من فقهاء الصحابة و التابعين مجتهدون، فكانوا يمارسون عملية الاستنباط باعمال القواعد الأُصولية - و لو على نحو الارتكاز - فكانوا [ 60 ] يحملون الأوامر الشرعية على الوجوب، و نواهيها على الحرمة، و العام على الخاصّ، و المطلق على المفيد، و المنسوخ على الناسخ، فهل يُعقل أن نقول أنّ ابن عباس أو ابن مسعود، أو الشعبي، أو ابن سيرين، أو ابن أبي ليلى، أو أبي حنيفة، أو مالك، أو محمد بن الحسن الشيباني، و غيرهم ممن سبقوا الشافعي في الاجتهاد و إعمال القواعد الأُصولية لم يكونوا مجتهدين، أو كانوا و لكنهم لم يعرفوا القواعد الأُصولية و هذا يعني ان الحكم على مثل أبي حنيفة بأنه: (فقيه، أو صاحب الرّأي و القياس)، سيكون حكماً مجازياً، و بطلانه من أوضح البديهيات. نعم كانت الأُمور و المستحدثات قد تطورت و تعقدت أيام الشافعي و استعصى حلّها إلاّ بإمعان النّظر و التدقيق و إفراغ الوسع في استنباط أحكامها، خلافاً للبساطة التي كانت عليها الأمور و الأحداث في زمن الصحابة. و من المناسب أن نشير إلى نصين يفيدان وجود عملية الاجتهاد منذ عصر الرسالة و هما:
قال النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم لابن مسعود: «اقض بالكتاب و السُّنة إذا وجدتهما، فان لم تجد الحكم فيها اجتهد رأيك»«».
قال النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «بم تَحكُم؟ قال: بكتاب اللَّه، قال: فان لم تجد؟ قال: بسنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله، قال: فان لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي»«».
و نتساءل أ ليس هذا الاجتهاد هو إعمال القواعد الأُصولية لأجل [ 61 ] استنباط الحكم الشرعي بعد خلو الكتاب و السُّنة من الحكم الصريح في الموضوع أو الحكم المشتبه؟ و أيضا لو كان مقصود الشيخ أبو زهرة بقوله: (وضع علم الأصول) أن الشافعي أوّل من صنف في أُصول الفقه، فانه أيضاً لا يخلو عن المناقشة إذ ان هشام بن الحكم (شيخ متكلمي الإمامية)، و يونس بن عبد الرحمن و هما من أصحاب الإمامين الصادق جعفر بن محمد و الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام و تلامذتهما قد ألّفا رسالتين في مباحث الأُصول و هما: (كتاب الألفاظ و مباحثها) و (كتاب اختلاف الحديث) و هما أسبق زماناً من الشافعي و رسالته الشهيرة. و قد تحدث العلامة آية اللَّه السيد حسن الصدر في كتابه (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) عن هذين الكتابين أو الرسالتين و عن مؤلفيهما طويلاً و أثبت سبق الشيعة في هذا العلم، و عَلّق الشيخ أبو زهرة على كلام السيد الصدر بقوله: «إنّ الصدر يقول إنّ الإمامين أمليا و لكنه لم يقل إنهما صنّفا و أنّ الكلام في أسبقية الشافعي إنّما هو في التصنيف و انّ مثل الإمامية في نسبتهم القول في هذه الأصول إلى الإمامين‌ الكبيرين كنسبة الحنفية في أُصولهم أقوالاً لأئمة المذهب الحنفي كقولهم في العام أنّ دلالته قطعية، و قولهم في الخاصّ انّه لا يخصص العام إلاّ إذا كان مستقلاً و مقترناً به في الزمن إلى آخره. فان هذه الآراء أثرت عن الأئمة مطبقة على الفروع، و لقد سلّم السيد الجليل (أي الصدر) بأنه لم يكن ثمة تصنيف للإمامين الجليلين و انّ ثمة إملاءٌ غير مرتب. فإذا قيل إنهما قد سبقا الشافعي في الفكر؟ فقد قررنا أنّ المناهج كانت مقررة ثابتة لدى المجتهدين من الصحابة و التابعين و جرت على [ 62 ] ألسنة بعضهم و استقام عليها فقههم، فإذا كان الإمام جعفر قد أملى بعضها على صحابته و تناولوه بعده بالترتيب و التبويب فقد كان الزمن كله ينحو في الجملة إلى ناحية ملاحظة المناهج و تمييز المدارس الفقهية في مناهجها.
و إذن فالإمامان لم يسبقا الإمام الشافعي بالتأليف، و أمّا سبق هشام بن الحكم بكتاب الألفاظ، و يونس بن عبد الرحمن بكتاب اختلاف الحديث، فنحن لا نستطيع أن نقرر بهذا أنّهما سبقا الشافعي إلى تدوين علم الأُصول لأن الكتابة في جزء من هذا العلم هو مشترك بينه و بين غيره كبحث الألفاظ و كاختلاف الحديث لا يُعدُّ تأسيساً لهذا العلم بمباحث الألفاظ، و الدلالات من المباحث المشتركة بين الأصول و بين اللغة و هي في الأُصول جزءٌ مكملٌ لفهم القرآن و السُّنة... لا يعدّ هذان العالمان بهذين البحثين قد أسسا علم الأُصول كما فعل الشافعي ذلك، ان الشافعي رتب أبوابه، و جَمَع فصوله، و لم يقتصر على مبحث دون مبحث بل بحث في الكتاب و السُّنة و طرق روايتهما و مناهج الاستدلال بها، و مقامها من القرآن، و بحث الدلالات اللفظية فتكلم في العام و الخاصّ، و المشترك و المجمل و المفصل، كما بحث الإجماع... و هو بهذا لم يُسبق، أو على التحقيق لم يُعلم إلى الآن أنّ أحداً قد سبقه)«».
و هكذا يقر الشيخ أبو زهرة بأسبقية الإمامين عليهما السلام و تلميذيهما في فتح باب الأُصول و فتق مسائله لكنه يرى:
أولا: أنّ رسالة الشافعي كتابٌ جامع يحتوي على معظم مسائل [ 63 ] أُصول الفقه، و اما كتابي هشام بن الحكم و يونس بن عبد الرحمن فهما يتحدثان عن موضوع معين من مباحث الأصول.
و ثانياً: يمكن عدّهما من أمالي الإمامين لا تصنيفاً مستقلاً.
و ثالثاً: لا يمكن عدّ تصنيفهما كتاباً أُصولياً مجرداً عن بقية العلوم، بل هما مشتركان مع علوم أُخرى.
و رابعاً: و على فرض اختصاصهما بعلم الأُصول فانهما يعدّان تصنيفاً في مسألة من مسائل علم الأُصول لا جميعها.
أقول أولا: في رأيي يمكن إيراد نفس هذه المناقشات على مصنف الشافعي، فان الشافعي لم يكن مُبدع هذا العلم و لا كان صاحب أول تصنيفٍ عنه، و انّما أضاف من نفسه و علمه الغزير إلى ما كان قد توصل إليه أسلافه من مشايخ و فقهاء أهل السُّنة.
ثانياً: اما كتاب (الرِّسالة) فانه أيضا لا يُعدُّ تصنيفاً مستقلاً كتبه الشافعي بنفسه، بل هو أيضا مجموع أماليه التي أملاها في مجالس متعددة على تلاميذه، و الشاهد عليه عبارة راوي الكتاب في بداية كثير من فصوله و أبوابه: (قال الشافعي) و استنتج أحمد شاكر - محقق كتاب الرسالة - في مقدمته أنّ الكتاب من أمالي الشافعي و ليس تصنيفه«».
ثالثاً: لم تكن المواضيع المطروحة في (الرِّسالة) أبحاث مستقلة - كما هو الشائع في التصانيف الأُصولية في الأدوار اللاحقة - و إنّما طرح الشافعي أبحاثه في إطار الكتاب و السُّنة، و يتضح لنا حقيقة أسلوبه بملاحظة عناوين الأبواب في (الرِّسالة) مثل: (باب ما نزل من الكتاب عاماً [ 64 ] يراد به العام و يدخله الخصوص)، و (باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر و هو يجمع العام و الخاصّ) و (باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاصّ) و غيرها.
و رابعاً: بالرغم من اشتهار كون (الرِّسالة) مُدوّنة أُصولية لكنها مجموعة خليطة من مباحث في علم الأُصول و غيره و ليس فيها غلبة للمباحث الأُصولية على غيرها، مثلاً يمكن أن نقرأ هذه العناوين فيها:
(باب فرض اللَّه طاعة رسوله مقرونة بطاعة اللَّه و مذكورة وحدها)، و (باب ما أمر اللَّه من طاعة رسوله)، و (باب ما أبان لخلقه من فرضه على رسوله اتّباع ما أوحى إليه و ما شهد له به من اتّباع ما أمر به و من هداه و انه هادٍ لمن اتبعه)، و (باب فرض الصلاة الّذي دل الكتاب ثم السُّنة على من تزول عنه بالعذر و على من لا تكتب صلاته بالمعصية)، و (باب الفرائِض التي أنزله اللَّه نصاً)، و (الفرائض المنصوصة التي سنَّ رسول اللَّه معها)، و (جُمل الفرائض)، و (في الزّكاة)، و (في الحجّ)، و (في العدد)، و (في محرمات النساء)، و (في محرمات الطعام)، و غيرها من العناوين، و في الحقيقة يمكن عدّ (الرسالة) خليطاً من أبحاث أُصولية، و كلامية، و فروع فقهية، و آيات الأحكام و تفسيرها«».
و هكذا ثبت أن الشيعة الإمامية سبقت غيرها في مجال التدوين في علم الأُصول، لكنها تأخرت عن المذاهب السُّنية في مجال الممارسة و التطبيق للسبب الّذي مرّ ذكره.***
[ 65 ]
2 - مراحل تطور علم الأُصول عند الشيعة الإمامية قلنا إنّ الشيعة بدأت بممارسة علم الأُصول عملياً و تطبيقياً في بدايات القرن الرابع الهجري، أي منذ حدوث الغيبة الكبرى عام 329 ه و لكنهم سبقوا هذا التاريخ بقرنين من الزمن بالتصنيف و التأليف و إملاء الأبحاث الأُصولية - لكن الملاحظ في مدوّنات هذه الفترة، أي منذ ظهور أوّل مُدوّنة أصولية للشيعة في القرن الثاني الهجري و هي رسالة هشام بن الحكم و حتى عصر الشيخ المفيد (توفي 413 ه):
أولا: اختصاصها بموضوع معين و بحث مفرد من الأبحاث الأُصولية مثل خبر الواحد، القياس، مباحث الألفاظ و غيرها.
و ثانياً: اختلاط علم الأُصول مع علم الكلام، بل كون الأبحاث الأُصولية فرعاً و تابعاً لأبحاث علم الكلام، و الظاهر أنّ منشأ هذا الاختلاط هو تسرب آراء أُصوليي أهل السُّنة إلى مدوّنات الشيعة، إذ أنّ [ 66 ] أعيان الأُصوليين عند أهل السُّنة كانوا من المتكلمين فملئوا مصنفاتهم الأُصولية بالمباحث الكلامية التي كانت السبب في تنمية علم الأُصول و تطوره، و يُمكن عدّ الباقلاني، و الجبائيّان، و القاضي عبد الجبار، و أبو الحسين البصريّ من أعيان هذه الطبقة، و قد تناول أُصوليّو الشيعة في مصنفاتهم آراء هؤلاء بالبحث و التمحيص و المناقشة و القبول أو الرّد.
و إليك أسماء مصنفي الإمامية في علم الأُصول منذ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري و حتى عصر تدوين كتاب (العُدَّة في أُصول الفقه) للشيخ الطوسي:
1 - هشام بن الحكم الشيباني الكوفي، من أصحاب الإمامين الصادق جعفر بن محمد و الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام، له مصنفات عديدة في علم الكلام و الجدل و الحديث، و يعدّ أوّل من صنف في علم الأصول و له (كتاب الألفاظ) توفي عام 199 ه ببغداد«».
2 - يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، وصفه النجاشي بقوله:
(كان وجهاً في أصحابنا، مُتقدماً، عظيم المنزلة، ولد في أيام هشام بن عبد الملك، و رأى جعفر بن محمد عليهما السلام بين الصفا و المروة و لم يرو عنه، و روى عن أبي الحسن موسى و الرضا عليهما السلام، و كان الرضا عليه السلام يشير إليه في العلم و الفُتيا) له تصانيف كثيرة في الحديث و الفقه و التفسير و الكلام، و اما تصنيفه في علم الأُصول فهو (كتاب علل الحديث) أو (كتاب اختلاف الحديث)«».
[ 67 ]
3 - الحسن بن موسى النوبختي، وصفه النجاشي بأنه (شيخنا المتكلم المُبرّز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة و بعدها)، و قال عنه النديم في الفهرست: (متكلم، فيلسوف، كان يجتمع إليه جماعة من النَقَلة لكتب الفلسفة مثل أبي عثمان الدمشقي و إسحاق بن ثابت و غيرهم) له مصنفات عديدة في أصناف الفنون، و له تصانيف في علم الأُصول و هي: (كتاب الخصوص و العموم) و (كتاب في خب ر الواحد و العمل به)«».
4 - إسماعيل بن علي بن إسحاق النوبختي، شيخ متكلمي الإمامية في القرن الثالث كان عالماً، فاضلاً، متكلماً، و له جلالة في الدين و الدنيا، له مصنفات عديدة في مختلف الفنون، و صنَّف في الأُصول (كتاب الخصوص و العموم و الأسماء و الأحكام)، و (كتاب نقض رسالة الشافعي)، و (كتاب إبطال القياس)، و (كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاِجتهاد)«».
5 - الحسن بن علي بن أبي عقيل العُمّانيّ الحذّاء، فقيه، متكلم، ثقة، في القرن الثالث الهجري، و يعدّ ابن أبي عقيل أوّل من أبدع نظام الاِجتهاد في الفقه الإمامي و صنّف كتاباً في الفقه باسم (المتمسك بحبل آل الرسول) و هذا كتاب اجتهادي في الفقه الإمامي حيث أدرج فيه آراءه الأُصولية، قال عنه النجاشي: (كتاب مشهور في الطائفة، و قيل: ما ورد الحاج من خراسان إلاّ طلب و اشترى منه نسخٌ)«».
[ 68 ]
6 - محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي، من أعيان الإمامية، ثقة، جليل القدر، له مصنفات كثيرة، و له مصنف في الأُصول و هو (كتاب كشف التمويه و الالتباس في إبطال القياس)«». توفي عام 381 ه.
7 - أبو منصور الصرَّام النيسابوري، من المتكلمين و من مشايخ الطوسي بخراسان، كان رئيساً مقدماً و له كتب كثيرة، مدحه الشيخ الطوسي في فهرسه و ذكر له كتاباً في علم الأُصول و هو (كتاب إبطال القياس)«».
8 - الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان العُكْبَري البغدادي، شيخ الإمامية و زعيمها ببغداد في أواخر القرن الرابع و بدايات القرن الخامس الهجري، يُعدُّ أعظم متكلمي المسلمين، و قد مدحه كلّ من ترجم له و وصفوه بالإجلال و الإكرام، و كان ملوك آل بويه و وزراؤهم يزورونه.
توفي ببغداد سنة 413 ه. له تصانيف كثيرة في شتى الفنون و العلوم و منها علم الأصول، و يبدو أنه أوّل من ألّف تصنيفاً يتضمن جميع مباحث علم الأُصول عند الإمامية، و قد أشار الشيخ الطوسي إلى كتابه في مقدمة (العُدّة في أُصول الفقه) و قد وصلنا مختصره الّذي صنعه الشيخ أبو الفتح الكراجكي (ت 449 ه) و أدرجه في كتابه (كنز الفوائد) و سمّاه (المختصر في أُصول الفقه).
9 - الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي، تلميذ الشيخ المفيد و زعيم الشيعة بعده، و من أعيان و مشاهير علماء المسلمين في [ 69 ] القرنين الرابع و الخامس الهجريين ببغداد، توفي عام 436 ه، و تصنيفه الأُصولي هو كتاب (الذريعة إلى أُصول الشريعة) حيث جمع فيه جميع مباحث الأُصول عند الإمامية في عصره.
10 - الشيخ محمد بن الحسن الطوسي مُصنّف كتاب (العُدَّة في أُصول الفقه).***
[ 70 ]
3 - الشيخ الطوسي و دوره في تطوير علم الأُصول يمكن عدّ الشيخ الطوسي من الرُّواد الأوائل في علم الأُصول و من منظريه، فبالرغم من أنّه عاش في القرن الخامس الهجري و سبقه آخرون من الإمامية و من أهل السُّنة في تدوين مصنفات في علم الأُصول، لكن نبوغ الشيخ أدّى إلى أن يتطور علم الأُصول على يديه تطوراً ملحوظاً بحيث (جاء كتابه «العُدَّة في أُصول الفقه» فريداً في بابه لم يصنّف مثله قبله، في غاية البسط و التحقيق)«»، فلو لاحظنا المدونات الأُصولية عند الإمامية و التي سبقت كتاب (العُدَّة) و هما كتابا (المختصر في أُصول الفقه) للشيخ المفيد و (الذريعة إلى أُصول الشريعة) للشريف المرتضى و قارنّا بينهما و بين كتاب (العُدّة) لتمكّنا من معرفة مدى التطور الحاصل في هذا العلم خلال هذه الفترة القصيرة التي لم تتجاوز ربع قرن، فاما (المختصر)
[ 71 ] للمفيد فانه كما وصفه الشيخ الطوسي بأنه (لم يستقصه و شذّ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها و تحريرات غير ما حرّرها)«». و اما كتاب (الذريعة) فبالرغم من أنّه يعدّ قمة الفكر الأُصولي عند الإمامية و تطوراً ملحوظاً مقارنة عما سبقه من مؤلفات المسلمين في علم الأُصول، لكن فيه من الثغرات مما كان من الضروري أن يُستدرك بتصنيف آخر يُمثّل رأي الشيعة و يتوافق مع التطورات الحاصلة في الفكر الأُصولي الإمامي، هذا فضلاً عن أنّه يبدو أنّ (الذريعة) لم تكن قد دوّنت بعدُ حينما شرع الشيخ الطوسي في تأليف (العُدَّة)، و قد وصف الطوسي الآراء الأُصولية عند شيخه الشريف المرتضى بقوله: (و إنّ سيّدنا الأجل المرتضى - أدام اللَّه علوّه - و إنّ كثر في أماليه و ما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يُصنّف في هذا المعنى شيئاً يُرجع إليه و يُجعل ظهراً يستند إليه)«». و يمكن إرجاع جانب من التطور الحاصل في الفكر الأُصولي عند الشيخ الطوسي و المتمثل في كتابه (العُدّة) إلى ضلوعه و تعمقه في الأبحاث الفقهية، فقد كان الطوسي فقيهاً قبل كل شي‌ء و قد أدّى غوره في البحوث الفقهية الوقوف على الثغرات الموجودة في الفروع الفقهية مما يصعب على الفقيه تجاوزها و حلها الا بالاعتماد على قواعد أصولية متينة مبنيّة على الأُسس الصحيحة و التي تؤدي ممارستها إلى سدّ تلك الثغرات و إيجاد الحلول المناسبة و تسهيل عملية الاجتهاد و الفتوى.
و قد وصف الإمام الخوئي - رحمه اللَّه - هذا التطور بقوله: (قد فرض [ 72 ] التفاعل الفكري بين الفقه و الأُصول أن يواكب هذا التوسع الفقهي نحو محسوس في الفكر الأُصولي تَمثل هو الآخر في كتاب (العُدّة) للشيخ الطوسي قدس سره، و لم يحقق هذا مرحلة جديدة في تطوير الفكر الفقهي الشيعي و مناهجه الأُصولية فحسب، بل حقَّق مكسباً عقائدياً كبيراً إذ ردّ على ذلك الاتهام الّذي وجهه الخصوم الفكريون إلى مدرسة أهل البيت و تحميلها مسئولية عجز الفقه الشيعي عن النموّ و الامتداد)«».
و يكفي لملاحظة التطور الهائل في كتاب (العُدّة) أن نقارن بين أبحاث و آراء الشيخ الطوسي فيه و آراء شيخه المرتضى في (الذريعة)، فالعُدّة جامع لكل مباحث الأُصول و مسائله و على غاية البسط و الاستقصاء و التحقيق، و قد لاحظت خلال تحقيقي عمقه في عرض الأبحاث و المسائل، و دقته و بُعد نظره في فرز الآراء الأصولية و مناقشة ما لا يتطابق مع رأيه و فكره الأُصولي، و قبوله للآراء الصائبة ثم إبداء آرائه التي لا يَصدرها إلاّ بعد تمحيص و تدقيق لآراء جميع الأُصوليين من الشيعة و أهل السُّنة، فهو خبير، نقادٌ، بصير بآراء عامة الأُصوليين و خاصة المعتزلي منهم، و للطوسي عشرات النظريات الأُصولية التي تفرد بها مثل: نظريته عن الخبر الواحد، و عن حدّ العلم، و عن تقسيمه للعلوم الضرورية، و عن مفهوم الظن عند الشيعة، و عن معنى الدلالة، و الدّال، و الشّاك، و المقلّد، و العقل، و الأمارة، و الحُسن و القُبح، و الاستعارة، و عن حُكم الأمر الوارد عقيب الحظر، و عن الأمر المعلّق بصفةٍ أو شرطٍ، و عن الأمر المُعلّق بوقتٍ، و في اقتضاء الأمر، و عن حقيقة النهي، و عن معني الخاصّ، و الاستثناء، [ 73 ] و الشروط و الغايات، و عما أُلحق بالعموم و ليس منه، و عن تخصيص العموم، و عن الألفاظ المُجملة، و عن شرائط النسخ و المنسوخ، و كيفية نسخ الكتاب و السُّنة، و عن مفهوم البِداء عند الشيعة، و شروط تحقيق الإجماع عند الإمامية و مدى حجيته، و عن القياس، و الاجتهاد (بالمعنى المصطلح عليه عند المذاهب السُّنية) و عدم حجيتهما عند الإمامية و غيرها من الآراء التي كانت لها تأثيرات كبيرة في الفكر الأُصولي الشيعي، و لقوة هذه الآراء و علوّ مكانة الشيخ الطوسي عند الإمامية بقيت آراؤه الأصولية إلى قرون عديدة تمثل رأي الشيعة (و إن حصلت فيها تغييرات في فترات لاحقة في عصر العلامة الحلّي و بعده) و بقي كتاب (العُدَّة) مادة أساسية في المناهج المدرسية لطلاب مدارس العلوم الإسلامية عند الشيعة، و قام بعض أُصوليي الإمامية بالتعليق عليه و شرح غوامضه.
و في نهاية هذا البحث ينبغي التنبيه إلى نقطة هامة ألا و هي الإشارة إلى التطور الهائل الّذي حصل في الفكر الأُصولي عند الش يعة بعد الشيخ الطوسي و خاصة منذ القرن السابع الهجري و حتى عصرنا الحاضر - خلافاً للركود و الجمود الّذي حصل في الفكر الأصولي عند أهل السنة و الّذي لا زال مستمراً - حيث لو أردنا بيان النسبة بين علم الأُصول في عصر الشيخ الطوسي و عصرنا الحاضر لما كنا مجازفين و لا مُغالين في القول بأنّ النسبة بينهما نسبة الواحد إلى الألف و للحديث عن هذا التطور و أسبابه و عوامله مجالٌ آخر. و اللَّه تعالى هو الهادي إلى الصواب.***
[ 74 ]
4 - منهج الشيخ الطوسي في تدوين كتاب (العُدّة في أصول الفقه)
يحتوي كتاب (العُدّة) على اثني عشر باباً، و يتضمن كلّ باب على فصول عديدة تقلّ و يكثر تعدادها حسب سعة أبحاث الباب و قلته. و قد تحدث المصنف في الباب الأول و خلال ستة فصول عن ماهية أُصول الفقه، و عن أمور أخرى خارجة عن موضوع علم الأصول و لكنها مرتبطة به ارتباطاً وثيقاً، كما حاول تحديد بعض المفاهيم اللغويّة و الاصطلاحات الكلامية و مباحث الألفاظ، مثل مفهوم العِلم، و العلم الضروري، و الظَّن، و الشَّك، و الدّلالة، و العقل، و الأمارة، و الحسن و القبح، و الحقيقة، و الاستعارة، و المجاز، و الأسماء، و اللفظ المشترك و الكناية و غيرها.
ثمّ تكلم المصنف في الباب الثاني عن الخبر و حَدّه و أقسامه، ثم تحدث طويلاً عن الخبر الواحد و خالف فيه مذهب شيخه الشريف المرتضى فذهب إلى وجوب العمل بخبر الواحد و أقام على مذهبه أدلة [ 75 ] عديدة و دَحض خلال أربعين صفحة أدلة خصومه.
و أوسع الأبواب في كتاب (العدّة) هو الباب الخامس الّذي عقده للتكلم عن العموم و الخصوص خلال 22 فصلاً، و في هذه الأبواب و من خلال فصوله و أبحاثه يبدو لنا شيخ الطائفة بحّاثاً قديرا، و أصوليا ماهرا، و عالما نحريرا، عارفا بأساليب الأصوليين و أدلتهم و طرق مناقشاتهم، فالطوسي في بداية كل فصل يطرح آراء جميع الأصوليين من الشيعة و أهل السُّنة، و آراء أرباب المذاهب، فهو أمين في طرحه لآرائهم و يحاول أن ينقله كما طرحه صاحبه دون أن ينقص منه شيئا أو يزيد عليه، ثم يبدأ بمناقشة الأدلة الواحدة تلو الأخرى و يحاول أن يدعم رأيه و مذهبه بالكتاب و السُّنة و اللُّغة و أدلة العقل. و أخيرا و بعد أن يرد قول الخصم يبرز رأيه المختار. و المصنف خلال أبحاث الكتاب يتعرض لآراء مجموعة من فقهاء أهل السُّنة و أئمة مذاهبهم أمثال: أبي حنيفة، الشافعي، داود بن علي الظاهري، مالك بن أنس، أبو الحسن الكرخي، محمد بن الحسن الشيباني و غيرهم. كما يتعرض المصنف لآراء جماعة من أعيان الأصوليين من أهل السُّنة - المعتزلي منهم و الأشعري - أمثال أبو عبد اللَّه البصري، القاضي عبد الجبار، أبو علي الجبّائي و ابنه أبو هاشم، و أبو القاسم البلخي، و أبو العباس بن سريج و آخرون. و أمّا من الشيعة فانّ الطوسي يطرح رأي شيخيه الشيخ المفيد و المرتضى - رحمهما اللَّه - في جميع أبواب الكتاب تقريبا، و الملاحظ أنه يهتم كثيرا برأي المرتضى و ينقل مقاطع كبيرة من عباراته لكن لم يشر إلى المصدر المنقول عنه بل يكتفي بالإشارة إلى أنه: قال سيدنا المرتضى - أدام اللَّه علوّه - أو - قدس اللَّه [ 76 ] روحه - بل يتجاوز الطوسي في بعض الأحيان الحدود المتعارفة في نقل النصوص، فينقل فصلا كاملا عن المرتضى، كما هو الحال في باب القياس، حيث أورد فقرة طويلة بدأت من صفحة 649 و ختمت في صفحة 721، و لم يشر المصنف في هذا المورد أيضا إلى مصدره الّذي نقل عنه سوى قوله في نهاية الفقرة: (و قد أثبتت في هذه المسألة أكثر ألفاظ المسألة الّتي ذكرها سيِّدنا المرتضى رحمه اللَّه في إبطال القياس لأنَّها سديدة في هذا الباب)، و جميع هذه النصوص و الفقرات مأخوذة من كتاب (الذَّريعة إلى أصول الشريعة)«». و لا نعرف السبب في عدم إشارة الطوسي لكتاب المصدر، و أظنّ أنّ المصنف نقل هذه النصوص مشافهة عن شيخه المرتضى في أيام تلمذته عليه و قبل أن يكتمل ترتيب، و تبويب، و تصنيف (الذَّريعة)، و يستنتج من هذا الأمر أنّ الطوسي صنَّف كتابه ببغداد قبل عام 430 ه و هي السُّنة التي أكمل الشريف المرتضى تصنيف كتابه (الذَّريعة) و أخرجه إلى الملأ العلمي«». و هكذا يبدو أنّ الطوسي رحمه اللَّه قد سبق شيخه الشريف المرتضى في تأليفه، فصدور كتاب (العدّة) أسبق زمانا من (الذَّريعة)، بالرَّغم من سبق المرتضى في طرح أبحاث كتابه على طلابه و منهم الطوسي الّذي استفاد مما كتبه في مجالس درس المرتضى في أبحاث كتابه، و هناك قرينة أخرى دالة على سبق صدور (العدّة) على (الذَّريعة) و هي قول الشيخ الطوسي في ديباجة.
[ 77 ] (العدّة): «فان سيّدنا الأجلّ المرتضى - قدس اللَّه روحه«»- و إن كَثر في أماليه و ما يقرأ عليه شرح ذلك، فلم يصنّف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه، و يجعل ظهرا يستند إليه)«»، حيث يصرّح بأنه لم يصدر للمرتضى - رحمه اللَّه - كتابٌ في مباحث الأصول سوى بعض الأبحاث المتفرقة المذكورة في أماليه.***
[ 78 ]
5 - مخطوطات كتاب «العُدَّة في أصول الفقه» توجد لكتاب (العدَّة) مخطوطات عديدة في المكتبات الخاصة و العامة، فبعضها مدرجة في ضمن كتاب (حاشية العدَّة في أصول الفقه) للمولى خليل بن غازي القزويني، و بعضها مستقلة، و هنا نحاول إحصاء مخطوطات الكتاب مجردة عن حاشيته، و اما نُسَخه مع الحاشية فانها كثيرة و السبب في ذلك أنّها كانت تعدّ من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية الشيعية، و مؤلف الحاشية - كما وصفه العلامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني - بقوله: «المولى خليل بن الغازي القزويني المولود في 3 رمضان 1001 ه و المتوفى 1089 ه، ترجمه و أرّخه و فصّل تصانيفه صاحب (الرياض) و ذكر انّه لم يوفّق لملاقاته في حياته لكن وفق لزيارته بعد وفاته، و ذكر أنّ حاشيته على (العدّة) التي عبّر عنها في (الأمل) بالشرح في مجلدين يعرف أحدهما بالحاشية الأولى و الآخر بالحاشية الثانية [ 79 ] أورد فيها مسائل كثيرة من الأصول و الفروع و غيرهما... و قد طبعت (حاشية العدَّة) مع (العدَّة) في إيران في 1314 ه و ذلك بعد طبع العدَّة في بمبي في 1312 ه»«». و نظرا لأهمية كتاب (العدَّة) فقد طبع لأول مرة في الهند قبل أكثر من قرن من الزمن على الحجر (سنة 1312 ه) ثم تلتها طبعة أخرى حجرية أيضا بطهران عام 1314 ه«»حيث الحق بآخرها حاشية القزويني.
و إليك سرد لمخطوطات هذا الكتاب و هي:
1 - نسخة كاملة بخط النسخ، كتبها عبد الصمد بن عبد اللَّه بن الحسين بن أحمد سنة 518 ه، و هي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 2916.
2 - نسخة كاملة بقلم نسخي مؤرخة سنة 1050 ه، مجهولة الكاتب في (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 3003.
3 - نسخة ناقصة الأواخر، كتبها محمد مؤمن مشهدي بن علي سراج الأسفراييني في ذي القعدة سنة 1055 ه و هي من مخطوطات (كتابخانه ملي ملك) بطهران برقم 1966.
4 - نسخة كاملة في مكتبة (مدرس يزدي) بمدينة يزد، كتبها محمد شفيع بن محمد شريف حسني فدكي بتاريخ 1057 ه.
5 - نسخة ناقصة الأوائل، كتبها شمس الطالقاني سنة 1080 ه و هي من.
[ 80 ] مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) برقم 2917.
6 - نسخة كاملة، بخط نسخي، مجهولة الناسخ، مؤرخة جمادى الثاني سنة 1051 ه و هي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) و رقمها 1033.
7 - نسخة بقلم نسخ، كتبها حسين بن منصور السبزواري بطوس سنة 1082 ه عن نسخة بخط حسين بن هلال مؤرخة سنة 723 ه، و هي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد).
8 - نسخة كاملة، كتبها كمال الدين محمد بتاريخ 1090 ه، و هي من مخطوطات (كتا بخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 2913.
9 - نسخة ناقصة الأواخر، مجهولة الكاتب، و هي من مخطوطات القرن العاشر في (كتابخانه ملي إيران) بطهران.
10 - نسخة كاملة، مجهولة الناسخ، كتبت في محرم عام 1126 ه و هي من مخطوطات (كتابخانه ملي ملك) و رقمها 6360.
11 - نسخة بقلم نسخي، كتبها محمد بن محمد مهدي سنة 1232 ه و هي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 6913.
12 - نسخة كاملة، في مكتبة (مدرسة الإمام البروجردي) في النجف الأشرف، كتبها محمد حسين بن شيخ علي بقزوين يوم الخميس 14 جمادى الآخر سنة 1240 ه، و رقمها 282.
13 - نسخة كاملة، بقلم نسخي، كتبها علي محمد ديزي لنجاني بتاريخ 5 ربيع الثاني سنة 1226 ه، و هي من مخطوطات (كتابخانه آية اللَّه مرعشي) بقم و رقمها 5295.
14 - نسخة كاملة، بقلم نسخي، كتبها محمد علي بتاريخ 19 رجب 1207 ه، [ 81 ] و هي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) و رقمها 1592.
15 - نسخة كاملة، بقلم نسخي، نسخها محمد تقي الكاشاني في جمادى الأوّل سنة 1262 ه و هي من مخطوطات (كتابخانه وزيري يزد) و رقمها 1908.
16 - نسخة بقلم نسخي، ناقصة الآخر من القرن الثالث عشر، و هي من مخطوطات (كتابخانه آية اللَّه مرعشي) و رقمها 142.
17 - نسخة ناقصة الآخر كتبها محمد أمين بن صفي قلي خان، مجهولة التاريخ و الظاهر أنّها من نسخ القرنين الأخيرين، و هي من مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) في خراسان.
18 - نسخة بقلم نسخي، كتبها سعيد بن علي بن حسين الحسيني التنكابني في غرة جمادى الأول سنة 1311 ه (الجزء الأول) و 1312 ه (الجزء الثاني)، و هي من مخطوطات (كتابخانه آية اللَّه مرعشي) و رقمها 5140.
19 - نسخة بقلم نسخي، كتبها محمد جعفر بتاريخ 4 شعبان 1272 ه، و هي من مخطوطات (كتابخانه سيد محمد علي روضاتي) بأصفهان.
20 - نسخة بقلم نسخي، كتبها علي رضا يزدي بتاريخ الثلاثاء 16 رمضان 1279 ه، و هي من مخطوطات مكتبة (مدرس يزدي) في يزد.
21 - نسخة بقلم نسخي، مجهولة الناسخ، كتبت بتاريخ 22 رجب 1282 ه و هي من مخطوطات (كتابخانه دامغاني) في مدينة همدان.
22 - نسخة كاملة من مخطوطات (مكتبة كاشف الغطاء) في النجف الأشرف، مجهولة الناسخ و التاريخ.
23 - نسخة في مكتبة منچستر ببريطانيا، و هي مجهولة التاريخ، و رقمها [ 82 ] 164.
24 - نسخة مجهولة الناسخ و التاريخ في مكتبة الموصل بالعراق.
25 - نسخة ناقصة الأواخر، مجهولة الناسخ و التاريخ، و هي في (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 2912.
26 - نسخة ناقصة الأواخر، مجهولة الناسخ و التاريخ، و هي في (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 2914.
27 - نسخة بقلم نسخي، مجهولة الناسخ و التاريخ، و هي في (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 2915.
28 - نسخة بقلم نسخي، مجهولة الناسخ و التاريخ، و هي في (كتابخانه آستان قدس رضوي) و رقمها 8497.
29 - نسخة ناقصة، بقلم نسخي مجهولة الناسخ و التاريخ، و هي من مخطوطات (كتابخانه آية اللَّه مرعشي) و رقمها 6339«».***
[ 83 ]
6 - أوصاف النسخة التي اعتمدتها بالرَّغم من الكثرة النسبية لنُسخ مخطوطات كتاب (العدَّة في أصول الفقه) لكنَّ تاريخ جميعها لا يتجاوز القرن العاشر الهجري، إلاّ نسخة واحدة و هي تعدُّ من نفائس و أعلاق المخطوطات في خزانة مخطوطات (كتابخانه آستان قدس رضوي) في مدينة مشهد المقدسة بخراسان، و قد اعتمدت في تحقيقي للكتاب على هذه النسخة اليتيمة و التي مر ذكرها برقم (1) عند عرضي لمخطوطات الكتاب، و أوصاف هذه النسخة كما يلي:
النسخة بقلم نسخي قديم، 205 ورقة، قياس 10 في 19 سم، 24 سطر.
أوراق هذه النسخة نظيفة و خطها مقروء، و يبدو أنّ الناسخ الّذي نسخها كان من أهل العلم و الفضل و المعرفة و ذلك بدليل سلامة النسخة عن التصحيف، و التحريف، و اللحن، و الأغلاط الفاحشة، و الأخطاء الإملائية التي غالباً ما تبتلى بها النسخ التي ينسخها الورّاقون. يوجد في آخر هذه [ 84 ] النسخة سقط بمقدار ورقتين، و نتيجة لذلك خفي علينا تاريخ نسخها الحقيقي و اسم الناسخ، لكن قام ناسخٌ آخر بإكمال هذا السقط فنسخ الصفحة الأخيرة و أثبت فيها اسمه و تاريخ كتابته حيث قال: «تَمَّ الكِتاب و ربُّنا محمود و له المكارم و العلى و الجود على النبيّ محمّد صلواته ما ناح قمريٌّ و أورق عود وقع الفراغ من كتبه عبد الصَّمد بن عبد اللَّه بن الحسين بن أحمد في ذي الحجَّة سنة ثمان عشرة و خمس مائة هجرية، حامداً للَّه، و مصلّيا على نبيه محمد [و آله الطاهرين».
و يستفاد من هذه الخاتمة أنّ السقط الّذي كان موجوداً في النسخة قد أكمل سنة 518 ه. و اما الناسخ فلا نعرف شيئا عن تفاصيل حياته و لم يرد له ذكرٌ في تراجم الأعلام إلا ما ذكره العلامة الطهراني بقوله:
«عبد الصمد بن عبد اللَّه بن الحسين بن أحمد، من فضلاء عصره، و قد كتب بخطه (عدَّة الأصول) لشيخ الطائفة في 528 ه و النسخة موجودة في الخزانة الرضوية»«». هذا و ينبغي التنبيه إلى انّ عبد الصمد بن عبد اللَّه لم يكن ناسخا لتمام الكتاب بل أكمل الورقتين الأخيرتين من النسخة و أورد في نهايتها اسمه، و أيضا لم يكن تاريخ نسخه سنة 528 ه (و قد انتقل هذا الخطاء من مفهرس مخطوطات المكتبة إلى جميع من تحدث عن مؤلفات الشيخ الطوسي) بل هو سنة 518 ه كما يظهر لمن يلاحظ تصوير النسخة.
و امّا تاريخ كتابة أصل المخطوطة فانه كما قال لي مفهرس المكتبة و خبير المخطوطات فيها، أقدم من تاريخ الإكمال، و انه توجد في النسخة [ 85 ] قرائن و شواهد على أنّها نسخت في النصف الثاني أو الربع الأخير من القرن الخامس الهجري. و توجد على هوامش بعض أوراق النسخة تصحيحات و تصويبات لكنها ليست كثيرة و خطها ليس بقدم قلم النسخة.
و يبدو أنّ النسخة كانت من متملكات حفيد السيد نعمة اللَّه الجزائري، حيث أثبت ملكيته لهذه النسخة على الصفحة الأولى بقوله: (انتقل إلى أقلّ عباد اللَّه عملا، و أكثرهم زللا، عبد اللَّه بن نور الدين بن نعمة اللَّه بن عبد اللَّه الموسوي الجزائري التستري في سنة 1145 ه).
هذا و قد استعنت في تحقيقي بنسختين من مخطوطات (كتابخانه آية اللَّه مرعشي) أشرت إليهما عند إحصائي لمخطوطات الكتاب برقم 13 و 16، و كانت استفادتي منهما قليلة و يسيرة، فقد راجعتهما للتأكد من بعض الكلمات و إملائها أو صحة الإعراب و حركاتها، و جميع ذلك في موارد قليلة جدا حيث انّ جلّ اعتمادي في التحقيق كان على النسخة الأصلية لقدمها، و قربها من عصر المؤلف، و سلامتها من النقص و التحريف و التصحيف و اللَّحن.
و قد اعتمدت أيضا في تحقيقي على الطبعة الحجرية، و هي الطبعة الثانية للكتاب و التي طبعت بطهران سنة 1314 ه، و سبب اختياري لهذه الطبعة أنّها طبعت في طهران قبل قرن من الزمان و بإشراف فضلائها و قد اعتمدوا في طبعها على نسخ عديدة مصحَّحة فتداولت النسخة بعد الطبع و لم يرد عليها أي إيرادٍ خلال هذه الفترة بل مدحوها و اعتمدوا عليها في أبحاثهم و إرجاعاتهم.***
ا [ 87 ] رابعا: عملنا في التحقيق
1 - قمت بنسخ المخطوطة الأصلية، مع تقطيع الأسطر، و الأبواب، و الأقوال، و الأجوبة و جعلها في المواضع المناسبة لها حسب الأسلوب الحديث في طباعة المخطوطات، ثم بعد ذلك قمت بعملية مقابلة النَّص الأصلي المنسوخ مع الطبعة الحجرية و تثبيت الاختلافات، و قد توخيت الحذر و الدقة في المقابلة لئلا يفوتني شي‌ء و ان كان اختلافا بسيطا فثبتُّ جميع ذلك في الهامش، و لكنني حين مراجعتي للكتاب لاحظت في بعض الموارد أنّ اللفظة أو العبارة المستعملة في النسخة الثانية أصحّ و أسلم و أبعد عن اللحن من التي في نسخة الأصل، فلأجل سلامة النّص و جعله أقرب ما يكون من الصورة الأصلية التي وضعها الشيخ الطوسي أبدلت ما في نسخة الأصل بما في النسخة الثانية و أشرت إلى ذلك في الهامش بقولي: (في الأصل.)..
[ 88 ]
2 - ثمَّ و بعد أن فرغت من المرحلة الأولى شرعت في المرحلة الثانية و الأصلية من تحقيق الكتاب، ألا و هي مراجعة النَّص من البداية حيث قمت بقراءة النَّص قراءة متأنية و وقفت عند كل قول نسبه الشيخ الطوسي رحمه اللَّه إلى قائل ما أو لمذهبٍ ما فراجعت المصادر المتاحة و حاولت العثور على مصدر القول و الإشارة إليه في الهامش، و عند فقد المصدر الأصلي للقائل - كما هو الحال بالنسبة إلى بعض مصنفات القاضي عبد الجبار المعتزلي (كالعمد) أو الجبّائيين أبي علي و ابنه أبي هاشم و غيرهما - حاولت اسناد قول الشيخ بذكر مصادر ثانوية تنسب هذا القول للقائل، و قد أشرت إلى أرقام صفحات بعض المصادر التي أخذ منها الشيخ الطوسي نصا طويلا أو قصيرا كما هو الحال بالنسبة إلى (الذريعة إلى أصول الشريعة) للشريف المرتضى و (المعتمد في أصول الدين) لأبي الحسين البصري و غيرهما.
3 - قمت بتحقيق النصوص الفقهية التي يذكرها المصنف في كتابه أثناء المناقشة و الاستدلال و ذلك بالرجوع إلى كتب الفقهاء و مصنفاتهم - سواء من الإمامية أو من المذاهب السُّنية - و أشرت إلى مكان وجودها في تلك المراجع.
4 - قمت بتحقيق الأحاديث و الروايات التي ذكرها المصنف أو اعتمدها في أثناء الاستدلال و استخرجتها من أقدم المصادر و أصحّها، و لم أكتف في ذلك بمصدرٍ واحدٍ أو مصدرين، بل حاولت قدر الإمكان إرجاعها إلى جميع صحاح أهل السُّنة و غيرها من المسانيد و المجاميع [ 89 ] الروائيّة، و كذلك الحال إلى مصادر الحديث المعتبرة عند الإمامية، و قد أشرت في بعض الموارد إلى رجال الحديث و أقوال الرجاليِّين في توثيقهم أو تضعيفهم.
5 - بما أنّ هذا الكتاب يعدُّ فريدا من نوعه و وحيدا في بابه و أسلوبه حيث عرض فيه المصنف علم أصول الفقه المقارن، و بالرَّغم من أنّ الشيخ الطوسي يتعرض لأقوال و آراء جلّ الأصوليين المعاصرين له أو المتقدمين عليه لكنه لم يستقصهم، فرأيت تتميماً للفائدة أن أذكر في بداية كل فصل جميع الأقوال و المذاهب المعروفة في تلك المسألة عند أهل السُّنة - سواءٌ من سبق المصنف أو عاصره أو تأخر عنه - و أقارنها بأقوال أصوليي الشيعة و بالمذهب المختار عند مشهورهم.
6 - ربما أطلق المصنف العبارة في بعض المسائل دون أن يشير إلى محل النزاع و يحاول تحريره، و لذلك قمت بتحقيق محل النزاع و تنقيحه و بيان موطن الخلاف فيه حتى يسهل على القارئ فرز الأقوال و الآراء و معرفة سبب الخلاف.
7 - استعنت بكتاب (حاشية عدَّة الأصول) للمولى خليل بن الغازي القزويني المطبوعة في نهاية طبعة طهران الحجرية لتوضيح و رفع الإبهام و الغموض عن بعض كلمات المصنف و عباراته أو اصطلاحاته في الجزء الأول من (العدَّة)، و قد أشرت إلى عبارة الحاشية في الهامش بعلامة ().
[ 90 ]
8 - ترجمت لكلّ رجلٍ من الرّجال الذين ذكرهم الشيخ الطوسي ترجمة موجزة تبينُّ قدر الرّجل و منزلته و سنة وفاته و أهم مؤلفاته إن كانت له مؤلفات، و لكنني استثنيت منهم من يعدُّ من المشاهير كالخلفاء الأربعة و المعصومون عليهم السلام.
9 - قمت بتخريج الآيات القرآنية و أشرت في موارد معدودة إلى أماكن وجودها في بعض التفاسير المهمة.
10 - قمت بشرح بعض الألفاظ الغريبة التي وردت في النَّص مستعينا بكتب اللغة و المعاجم.
11 - لم يستشهد المصنف بالأبيات الشعرية إلاّ في ثلاثة موارد حيث بيت شعر و رجزين، فقمت بتخريج ما أمكن من ذلك و ترجمت لقائلها ترجمة موجزة مع بيان مصادر الترجمة و التخريج.
12 - قمت بترقيم فصول الكتاب و ذلك لأجل تسهيل عملية الرجوع و الفهرست، فجعلت لفصول كل باب رقما خاصا في داخل المعقوفتين [].
13 - لاحظت ألفاظا ملحونة و لكنها نادرة جدا و في موارد غير مهمة مثل تكون و يكون، كان و كانت، فصححتها دون الإشارة إليها لوضوح الأمر فيها.
[ 91 ]
14 - بالنسبة للرسم الإملائي قمت بكتابة النَّص على الرسم المتعارف اليوم لا على ما جرى عليه الناسخ قبل عشرة قرون، فكتبت بدل الصلاة الصلاة، و الوطء الوطء، و غيرهما، و ذلك إيثارا للتسهيل على من يطالع الكتاب، و جريا على المتعارف عليه اليوم.
15 - حاولت قدر الإمكان تحريك المواضع المهمَّة في الكلمات بالحركات الإعرابية خاصة في الموارد التي لا يتميز اسم الفاعل عن اسم المفعول الا بالفتح أو الكسر مثل المخبر و المخبر، و ذلك لأجل تسهيل القراءة و فهم مضمون اللفظ و مراد المصنف.
16 - مما يكثر المصنف استعماله في الكتاب الإرجاع، فهو كثيرا ما يقول: (سبق و أن ذكرناه) أو (قد مرّ ذكره) أو (سوف يأتي ذكره) و نظائرهما، فقمت بإرجاع جميع الموارد إلى مواضعها الأصلية، بل أشرت إلى مواضع بعض الأبحاث المهمة، و آراء الفقهاء و الأصوليين في الهامش عند تكرار البحث من المصنف أو إشارته إليها.
17 - ذكر المصنف أثناء المناقشة و البحث أقوالا لم ينسبها لقائلٍ معين بل اكتفى بالقول: (قالوا - فان قيل - قيل) و قد راجعت جميع المصادر المتاحة و عثرت على أغلب القائلين و أشرت إلى أسمائهم و مصادر أقوالهم في الهامش، و في موارد نادرة أشرت إلى اننا لم نتحقق من قائله.
[ 92 ]
18 - و أخيرا قمت باستخراج فهارس تفصيلية عديدة و هي كما يلي:
فهرس الآيات، فهرس الأحاديث، فهرس الآثار و أقوال الصحابة، فهرس الأعلام، فهرس الفرق و الطوائف و المذاهب، فهرس الكتب الواردة في المتن، فهرس الأشعار، فهرس الأماكن و البقاع، فهرس مصادر البحث و التحقيق، فهرس محتوى الكتاب.***
و في الختام أبتهل إلى اللَّه العليّ القَدير لتوفيقه إيّاي أن أعيش في رحاب هذا الكتاب المبارك، و أسأله تعالى أن يَتَقبل عَمَلي، و يخلصَ نيَّتي، و يَجعله ذخرا لي يومَ لا يَنفَع مالٌ و لا بَنون.. كما أودّ أن أهدى هذا الجهد المتواضع إلى والدي العلاّمة الحجّة الشيخ أحمد الأنصاري القميّ الّذي لا يزال يرزح تحت نير الظالمين في سجون العراق، شاكرا أياديه الكريمة في تربيتي و برّي، سائلا المولى القَدير أن يَمنَّ عليه بالفرج العاجل آمين.
و آخر دَعوانا أن الحَمد للَّه رَبّ العالمين غرّة ذو القعدة الحرام 1417 ه محمد رضا الأنصاري القميّ [ 1 ] العدة في أصول الفقه تأليف الشيخ الطائف الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه اللَّه) 385 - 460 ه الجزء الأوّل تحقيق محمد رضا الأنصاري القمّي [ 3 ] بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه وحده، و الصَّلاة على خير خلقه، محمّد و آله الطيبين.
قد سألتم أيّدكم اللَّه إملاء مختصر في أصول الفقه، يحيط بجميع أبوابه على وجه الاختصار و الإيجاز«»، على ما تقتضيه مذاهبنا، و توجبه أصولنا، فانّ من صنّف في هذا الباب سلك كلّ قوم منهم المسالك التي اقتضاها«»أصولهم، و لم يصنف أحد«»من أصحابنا في هذا المعنى، إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد اللَّه رحمه اللَّه«»في المختصر الّذي له في أصول

نام کتاب : العدة في أصول الفقه نویسنده : الشيخ الطوسي    جلد : 1  صفحه : 3
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست