فلمّا كان في رجب من هذه السنة قدم أبو القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظّاهر بأمر الله وهو عمّ الخليفة المستعصم وأخو المستنصر ، وقد كان معتقلا ببغداد ثمّ أطلق ، فكان مع جماعة الأعراب بالعراق ، ثمّ قصد الملك الظاهر حين بلغه ملكه ، فقدم عليه الدّيار المصريّة صحبة جماعة من أمراء الأعراب عشرة ، منهم الأمير ناصر الدين مهنّا ـ وكان دخوله إلى القاهرة في ثاني رجب ـ فخرج السّلطان للقائه ، ومعه القاضي تاج الدين والوزير والعلماء والأعيان والشهود والمؤذنون فتلقّوه ، وكان يوما مشهودا ، وخرج اليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم ، ودخل من باب النّصر بأبّهة عظيمة.
فلمّا كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب ، جلس السلطان والخليفة في الإيوان بقلعة الجبل والقاضي والوزير والأمراء على طبقاتهم ، وأثبت نسب الخليفة على القاضي تاج الدين ؛ فلمّا ثبت قام قاضي القضاة قائما ، وأشهد على نفسه بثبوت النسبة الشريفة. ثمّ كان أوّل من بايعه [١] شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام ، ثمّ السلطان الملك الظاهر ، ثمّ القاضي تاج الدين ، ثمّ الأمراء والدولة ، وركب في دست الخلافة بمصر والأمراء بين يديه ، والنّاس حوله ، وشقّ القاهرة ، وكان يوما مشهودا ، ولقب المستنصر بالله بلقب أخيه ، وخطب له على المنابر ، وضرب اسمه على السّكة ، وكتبت بيعته إلى الآفاق ، وأنزل بقلعة الجبل هو وحشمه وخدمه ، فلمّا كان يوم الجمعة سابع عشر رجب ، ركب في أبهة السواد ، وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر ، وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العبّاس ، ودعا للسلطان ، ثمّ نزل فصلّى بالناس ، وكان وقتا حسنا ويوما مشهودا.
ثمّ في يوم الاثنين رابع شعبان ركب الخليفة والسلطان والقاضي والوزراء والأمراء وأهل الحلّ والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة ؛ فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء ، وطوقا في عنقه من ذهب ، وقيدا من ذهب في رجليه. وفوّض إليه الأمور في البلاد الإسلامية وما سيفتحه من بلاد الكفر ، ولقّبه بقسم أمير المؤمنين ؛ وصعد فخر الدين بن لقمان رئيس الكتّاب منبرا ، فقرأ عليه تقليد السلطان ، وهو من إنشائه وصورته :
الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشّرف ، وأظهر بهجة درره ، وكانت خافية بما استحكم عليها من الصّدف ، وشيّد ما وهي من علائه حتّى أنسى به ذكر من سلف ، وقيّض لنصره ملوكا اتّفق عليهم من اختلف.