قال : وثار في خاطره أن يرحل إلى موطن أصله ، ويجتمع هنالك مفترق شمله ، ويحلّ بين من له به من الأقارب ، ولا يثني العنان بعد إلى المغارب ، فلما حل بغداد ، أكذبت عينه ظنّه ، وأجدب المراد ، وأخفق المراد ، فرجع لا يلوي على متعذّر ، ولا يمرّ بغير مستكره عنده متكدّر ، فقال :
حننت إلى بغداد حيث تمكنت
أصولي فلما أن حللت ببغداد
رأيت ديارا يبعث الهمّ لحظها
وقوما يسومون الغريب بأحقاد
فولّيت عنهم عائدا غير عاطف
وإن كان فيما بينهم نشء أجدادي
وجزت على مصر فغمّضت مقلتي
وقلت بعنف مغرب الشّمس يا حادي
وكان أشدّ ما لقيه ببغداد ، أنه حرد يوما بحضرة جماعة منهم ، وأفرط في سوء الخلق ، فقال له أحدهم : يا هذا ، بئس ما عوّضتنا عما نقله أبوك من بلدنا إلى المغرب : حمل عنّا علما وأدبا ، وجئتنا بجهل وسوء أدب ، فقال : المشي يلزمني إلى مكة حافيا راجلا إن قعدت لكم في بلد من يومي هذا. وخرج من حينه ، فقال له البواب : من أين أتيت يا إنسان؟ فقال بشدة الغيظ : من لعنة الله! فقال : اصبر حتى أستأذن عنك! وكتب بذلك للوزير ، فقال الوزير : لا ينكر هذا الخلق على مغربي ، فأطلقوه بنصرف إلى موضعه الذي ذكر.