و عدلت عن الطبيعة إلى جهة العقل كانت
كالملائكة و صارت أفعالها مشاكلة لأفعالهم، فإذا فارقت الجسم صارت إليهم و قدمت
عليهم، و إن عدلت عن العقل إلى الطبيعة صارت مثل الشياطين و من حزب إبليس اللعين،
و صارت أفعالها تشبه أفعالهم، و إن فارقت الجسم، و هي على ذلك، صارت معهم.
فمستقبل الإنسان بالجنة أشبه و هو ذات اليمين، و مؤخّره بالنار أشبه
و هو ذات الشمال. و القفا يشبه عالم الكون و الفساد إذ كان ظلمة كله و هو الظهر و
ما يبدو منه و يكون عنه من خروج الغائط. و الوجه عامر بالحواسّ و الأنفاس و
الأنوار و هو عامر مأنوس كعمارة الأفلاك و نور السماوات، كما قال تعالى: «فضرب
بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب». و لا صورة أحسن من
الإنسان المليح الوجه التامّ الخلقة، الكامل البنية إذا أقبل، و لا شيء أوحش من
الإنسان إذا أدبر.
و كذلك يوجد الإنسان بين حالتين في معيشة دنياه و ما يكون به صلاح
جسده و قوام نفسه و هما الفقر و الغنى، فالغنى يسمى إقبالا و الفقر إدبارا.
فبالغنى النعيم و اللذة و بلوغ الغرض و الشهوة، و كذلك أهل الجنة لهم
فيها ما يشتهون، ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر. و بالفقر يكون
عدم المحبوبات و كثرة الهموم و الأحزان و الحسرة و الندامة على ما يفوتهم مما
يناله غيرهم من أهل اليسار. و كذلك أهل النار لا ندامة كندامتهم على ما يفوتهم من
خيرات الجنة و ما يناله أهلها.
و على هذا المثال إذا اعتبرت بنية الإنسان و تأملتها وجدتها جميع
الموجودات، و فيها مثالات ما فيها بأسرها، فلذلك يسميها الحكماء عالما صغيرا، إذ
كانت مشاكلة بجميع ما فيها لجميع ما في العالم الكبير.