الاستقراء و الشوق إليها و الرغبة فيها،
يتهيأ لها بذلك انتساج ملاحظته فيها في دائرتها، و حصولها في ذاتها. فإذا تأملت
بملاحظتها و استمدادها عادت متمثلة لما رأت في دائرتها أشكالا كما يفعل التلميذ
إذا امتلأ من تعليم مفيده، عاد إلى تمثيل ما تعلم بالتشّه و المحاكاة، كما يوجد
ذلك في الصبيان من محاكاة صنائع آبائهم و التشبّه بهم في أفعالهم. و إنما جعل ذلك
في جبلتهم و غريزة عقولهم ليكون قائدا لهم إلى معرفة الصنائع و الأعمال لما في ذلك
لهم من النفع التام و الصلاح العام لعمارة دار الدنيا.
فإذا صارت تلك النقوش و الأشكال في دائرة النفس و رتبتها في آفاقها و
بنتها في دائرتها، ابتدأت بإلقائها إلى من دونها و تولت إثباتها فيه كثبوتها فيها
و كونها عنها، فابتدأت القوى الطبيعية التي تحيط بالأجساد الهيولانية فتركب منها
نقوش صورية و أصباغ نورانية موجودة في أجسام نورانية، موجودة في أجسام ظلمانية و
أجساد هيولانية لتشرق عليها أنوار نفسانية، و تتحد بها قوى روحانية، و صارت الحكم
الملقاة عليها بقوة ملكية و إرادة فلكية و بقوة عقلية و مشيئة إلهية، و ظهرت
الخلقة الآدمية و الصور الإنسانية قائمة بالحق ناطقة بالصدق مقرّة بتوحيد الخالق
سبحانه و تعالى، و مقرة بحدوث خلقها، و إتقان صنعها، و كمال بنيتها بوجود باريها
ما أوجده فيها و قدمه عليها. فهي صورة مماثلة لصورة العالم الكبير فلذلك سميت
عالما صغيرا، ثم ما دونها من صور الحيوانات و عجائب تراكيبها و بدائع تآليفها. و
صورة الإنسان لنفسه كتاب مبين و صراط مستقيم في العالم الكبير و هو ما فيه إنسان
واحد للنفس الكلبة تدبر أفلاكه و تحرك كواكبه بإذن اللّه تعالى، و مشيئته و سابق
إرادته، كما يحرك نفس الإنسان الذي هو عالم صغير جميع مفاصل جسده و أعضاء بدنه.
و اعلم أيها الأخ أن لتلك الحركات النفسانية قوى متصلة بفلك القمر و
ما دونها من الأركان و مولّداتها و أفعالا تظهر فيها و منها لا يحصي عددها إلّا
اللّه سبحانه و تعالى، كما أن لنفس الإنسان في جميع بدنه و مفاصل جسده