الحواس، و ذلك أن كل حيوان لا بصر له فهو لا
يتخيّل الألوان، و ما لا سمع له فلا يتخيّل الأصوات و لا يتوهمها، لأن التخيل أبدا
في تصوّره للأشياء تبع للإدراك الحسّي؛ و العقل في استنباطها تبع الدليل النفسيّ.
فأما الإنسان فإنه لما كان يفهم الكلام، أمكنه أن يتخيّل المعاني إذا
وصفت له.
فصل في عجائب هذه القوة المتخيلة و تفاوت الناس فيها
فنقول: اعلم أن الناس في هذه القوة متفاوتو الدرجات تفاوتا بعيدا
جدّا، و الدليل عليه أنك تجد كثيرا من الصبيان يكون أسرع تصوّرا لما يسمعون، و
أجود تخيّلا لما يصف لهم كثير من المشايخ و البالغين، و ذلك أن كثيرا من العلماء و
العقلاء و المرتاضين في العلوم و الآداب تعجز نفوسهم عن تصوّر أشياء كثيرة قد قامت
الحجّة و البراهين على صحتها.
ثم اعلم أن العلة في تفاوت درجات الناس في هذه القوّة ليست من اختلاف
جواهر نفوسهم، و لكن من أجل اختلاف تركيب أدمغتهم و اعتدال أمزجتها، أو فسادها و
سوء مزاجها- كما ذكر ذلك في كتب الطب- و من عجائب أفعال هذه القوة أيضا، و ما
يتأتى للإنسان أن يعمل بها أعمالا عجيبة، ما يحكى عن قوم من الكهنة من أهل الهند
أنهم يؤثّرون في غيرهم بأوهامهم أشياء عجيبة ينكرها أكثر الناس. فأما حكماء بلاد
اليونان و فلاسفتها فيرون ذلك يمكن و يتأتى للإنسان في نفسه، فأما في غيره فبعيد
جدّا، و نحن قد بيّنا ذلك في رسالة الزّجر.
و من عجائب أفعال هذه القوة أيضا أنها تركّب القياسات، و تحكم بها
على حقائق الأشياء بلا روية و لا اعتبار، مثل ما يفعل الصبيان و الجهّال و كثير