ثم اعلم أن اللّه تعالى قد علم بأنه يعرض للعقلاء هذه الشكوك و
الحيرة حيث تفكّروا في كيفية حدوث العالم، و لا يتصوّر بهذه الطريقة لصعوبتها،
فجعل له طريقا آخر أسهل من هذه، و أقرب، و ركّزها في نفوسهم كأنها مكتوبة فيها
كتابة إلهيّة، لا يمكن لأحد من العقلاء إنكاره، إذا أنصف عقله، لأنه يجد صدقها في
نفسه شاهدا له بها، و هي كيفية صورة العدد، و منشؤه من الواحد الذي قبل الاثنين
كما في رسالة الأرثماطيقي.
ثم اعلم أن الحكماء و العلماء هم ورثة الأنبياء، و الأنبياء هم سفراء
اللّه بينه و بين خلقه، ليعبّروا عنه المعاني، و يفهموها الناس بلغات مختلفة، لكل
أمة ما تعرفه، على قدر احتمال أفهامهم. فإذا مضت الأنبياء لسبلها، خلفهم العلياء و
الحكماء، و قاموا مقامهم، و نابوا منابهم ذا كانوا يقولون و يفعلون، و يعلمون
الناس من معالم الدين و طريق الآخرة و مصالح الدنيا. فمن قبل منهم ما قالوه، و عمل
بما أمروه، فهو على طريق النجاة و الفوز، و من أبى و كفر به، فهو على خطر عظيم و
خوف من الهلاك. فاحذر يا أخي مخالفة الحكماء، و معاندة العلماء، بل كن منهم إذا
استوى لك. و ينبغى أن لا ترضى لنفسك إلّا بأعلى مرتبة في العلم و الحكمة، فإن بذلك
يكون القربة إلى اللّه كما ذكر بقوله:
و إذ قد بان بما ذكرنا طرف من فضيلة العلماء و مناقب الحكماء، فنقول
الآن: قد قالت الحكماء كلمة كلّية صادقة و هي قولهم: إن الطبيعة لم تفعل شيئا
باطلا، و معنى هذا القول أنه ليس شيء في الموجودات بلا فائدة و لا عائدة، بل ما
من شيء إلّا و فيه جرّ لنفعة أو دفع لضرّ. فإذا كان الأمر كما ذكرت، فيحتاج كلّ
من يدّعي أنه يعرف الحكمة، أو يعاطى التحقيق،