ثم اعلم أن لكل شيء من الموجودات قسطا من السعادة، قلّت أم كثرت، و
هي أن يبقى ذلك الشيء موجودا أطول ما يمكن على أحسن حالاته و أتمّ نهاياته، و
لكنّ أسعد السعادات، و أتمّ النهايات، و أرفع المقامات ما يناله أولياء اللّه
الذين هم صفوته و أهل مودته، و هو ثلاث خصال: أولاها معرفتهم بربهم، و الثانية
قصدهم نحوه بهممهم، و الثالثة طلابهم مرضاته بسعيهم و أعمالهم.
فأما معرفتهم بربهم فهو أن يعلم أن كل نفس جزئية هي قوة منبجسة فائضة
من النفس الكلية؛ و يعلم أن النفس الكلية هي أيضا قوة منبجسة فائضة من العقل
الكلي، و يعلم أن العقل الكلي هو أيضا نور فائض من وجود الباري تعالى؛ و يعلم أن
اللّه تعالى هو نور الأنوار، و محض الوجود، و معدن الجود، و معطي الفضائل و
الخيرات و السعادات، و هو باق أبدا سرمدا، و أن النفس الجزئية هي أيضا أنوار و
ضياء و إشراقات فائضة من النفس الكلّية، منبثّة منها في العالم، سارية في الأجسام
من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض. فهذا أصل علم أولياء اللّه تعالى و
معرفتهم بربهم.
و أما قصدهم نحوه بهمم نفوسهم فإنه فكرتهم، آناء الليل و أطراف
النهار، في عجائب مصنوعاته، و غرائب مخترعاته، و أصناف خلائقه، و اعتبارهم تصاريف
أحوالها، و كيفيّة الوصول إليها و إلى صانعها و بارئها، و محبتهم له، و اشتياقهم
إليه من كثرة ما يرون من إحسانه و إنعامه عليهم و على الخلق أجمعين، و قد جبلت
القلوب على حبّ من أحسن إليها. و أما طلابهم مرضاته بسعيهم و أعمالهم فهو قبولهم
وصايا ربهم تعالى التي جاءت بها الأنبياء و الرسل، :، و العمل بجميع ما
أشاروا إليه فهم في ليلهم و نهارهم لا يغفلون عنه، و لا يسهون عن أسراره في القيام
و القعود، و الممرّ