فأما الأجسام فإن أفضلها ما كان يظهر عنه أفضل فعل، و أجلّ النفوس ما
بدا منها العلم و زال عنها الجهل.
ثم اعلم أن ألذّ ما يأكل الإنسان هو العسل، و أنعم ما يلبس هو
الإبريسم. فإن كان الفاعل لهما هي الدودة و الزّنابير، فإذا أصغر الأجسام أكرمها
فعلا. و قد قام البرهان بأن الجسم لا فعل له البتّة.
و لا يخفى عليك بأن الزرع و الشجر في إخراج الحبّ و الثمر، و غايتهما
الحصاد، و تمام الغرض منهما بعد ذلك تمام الحيوان في الإدراك، و غايته النتاج، و
حصاده و صرامه الموت.
فالغرض من الحيوان إذا بعد الموت كذلك الحبّ إذا لم يتمّ و لم يستحكم
قبل حصاد الزرع، لا ينتفع به بعد الحصاد. كذلك الثمر إذا لم ينضج و ينعقد قبل
إخراجه، لم ينتفع فيما يراد منه.
و هكذا حكم النفس الإنسانية، إذا هي لم تتمّ بالمعارف الحقيقة
صورتها، و لم تستتمّ بالأخلاق الجميلة جوهرها، و لا بالآراء الصحيحة عقلها، و لا
بالأعمال الزكية ذاتها في الدنيا، لا تنتفع بعد مفارقة الجسد بحياتها، و لا تستقلّ
بذاتها، و لا تلتذ بالنعيم في الآخرة على التمام و الكمال، كما أن الجنين إذا لم
تستتمّ في الرّحم خلقته، و لم تستكمل هناك صورته، لا ينتفع بالحياة في الدنيا.
فهكذا حكم النفس لأن موت الجسد ولادة النفس، كما أن الطّلق ولادة
الجنين؛ فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة و رقدة الجهالة، فإن الغرض في ذلك أن تصير
ملكا بالفعل، فاجتهد غاية الجهد، و قوّ ظهرك بالحبل المتين، و اعتصم بحبل اللّه «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ
إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ.» و اجتهد أن تتوجه
نحو الصّراط المستقيم، إذ ذلك أقرب طرق من الخط المعوجّ إلى الغرض الأقصى، لتنال
بذلك السعادة و بقاء الأبد، و تتلذذ بلذات