أحكامهم علينا، شئنا أو أبينا، ليست لنا
حيلة في الخروج عن أحكامهم، و لا دفع سلطانهم، و لا الخلاص من جورهم إلى الممات.
قال: أخبرني من هؤلاء الحكام؟ قال: نعم، أولهم هذا الفلك الدوّار
الذي نحن في جوفه محبوسون، و كواكبه السيّارة التي لا تزال تدور علينا ليلا و
نهارا لا تقرّ، تارة تجيئنا بالليل و ظلمته، و تارة بالنهار و حرارته، و تارة
بالصيف و سمائمه، و تارة بالشتاء و زمهريره، و تارة بالرياح العواصف في زعازعها، و
تارة بالغيوم و أمطارها، و تارة بالرعود و الزوابع و صواعقها، و تارة بالجدب و
الغلاء و الموتان[1] و البلاء،
و تارة بالحروب و الفتن، و تارة بالهموم و الأحزان، ليس منها نجاة إلّا بجهد و
بلوى، و كدر و عناء، و خوف و رجاء، إلى الممات. ثم قال: فهذا واحد.
و أما الآخر فهو هذه الطبيعة و أمورها المركوزة في الجبلة، من حرارة
الجوع، و لهب العطش، و نار الشّبق، و حريق الشهوات، و الآلام، و الأمراض و
الأسقام، و كثرة الحاجات! و ليس لنا شغل ليلا و لا نهارا إلّا طلب الحيلة لجرّ
المنفعة، أو لدفع المضرّة عن هذه الأجساد المستحيلة[2]
التي لا تقف على حالة واحدة طرفة عين! فنفوسنا منها في جهد و بلاء، و كدّ و عناء،
و بؤس و شقاء! ليس لنا راحة إلى الممات. فهذان اثنان.
و أما الثالث فهو هذا الناموس، و أحكامه و حدوده، و أوامره و نواهيه،
و وعيده و زجره، و تهديده و توبيخه؛ إن خرجنا من أحكامه فضرب الرقاب، و الحدود؛ و
إن فررنا منه لم نجد لذّة العيش و لا صلاح الوجود في الوحدة؛ و إن دخلنا تحت
أحكامه، فما نقاسي من الجهد و البلوى، في إقامة حدوده، أكثر مما يحصى، من ألم
الجوع عند الصيام، و تعب الأبدان عند القيام للصلاة، و مقاساة برد الماء عند
الطهارات، و مجاهدة شحّ النفوس عند إخراج الزكاة
[1] -الموتان: الموت الكثير الوقوع في الناس او في المواشي.