و صيّرت اللطيف و الرقيق مادّة للّب و الحبّ
و الثمر و هي الدقيق و الشّيرج و الدّهن و الدّبس و الطعم و اللون و الرائحة.
فإذا تناول الحيوان لبّ النبات ليتغذى به، و حصلت تلك المادة في
المعدة، فأول فعل هذه القوى فيها فعل القوة الهاضمة بالحرارة الغريزية، ثم تصفيتها
في المعى، و جذب الكيموس إلى الكبد، ثم تنضيجها مرة أخرى، ثم تمييز الأخلاط بعضها
من بعض، و هي الدم و البلغم و المرّتان، ثم دفعها إلى الأعضاء و الأوعية المعدّة
لقبولها، ثم تقسيط الدم على الأعضاء و المفاصل بالأوراد، ثم تغذيته لكل عضو بما
يشاكله من تلك المادة؛ ثم النموّ و الزيادة في أقطارها طولا و عرضا و عمقا، ثم
استخراج النّطفة من جميع أجزاء بدن الفحل عند حركة الجماع و هي زبدة الدم، ثم
نقلها إلى رحم الأنثى بالآلات المعدّة لذلك.
و أما فعل هذه القوى في تركيب جسد الإنسان، عند حصول النّطفة في
الرّحم و تدبيرها لها تسعة أشهر حالا بعد حال إلى أن تستتمّ بنية الجسد، و تستكمل
هناك صورته، فقد شرحناها في رسالة أخرى غير هذه.
فإذا تمت له المدة المقدّرة، التي قدّرها الباري جل ثناؤه، و نقلته
قوة النفس الحيوانية الحساسة، بإذن اللّه تعالى، من ذلك المكان إلى فسحة هذه
الدار، استؤنف به تدبير آخر إلى تمام أربع سنين. ثم ترد القوة الناطقة المعبّرة
لأسماء المحسوسات، و تستأنف به تدبيرا آخر إلى تمام خمس عشرة سنة.
ثم ترد القوة العاقلة المميّزة لمعاني المحسوسات، و تستأنف به تدبيرا
آخر إلى تمام ثلاثين سنة. ثم ترد القوّة الحكميّة المستبصرة لمعاني المعقولات، و
تستأنف به تدبيرا آخر إلى تمام أربعين سنة. ثم ترد القوة الملكية المؤيّدة، و
تستأنف به تدبيرا آخر إلى تمام خمسين سنة. ثم ترد القوة الناموسية الممهّدة
للمعاد، المفارقة للهيولى، و تستأنف به تدبيرا آخر إلى آخر العمر. فإن تكن النفس
قد تمّت و استكملت، قبل مفارقة