فيعلمون يقينا بأن ذلك ليس من فعل البهائم و
لا من تدبير الإنس، بل لا يشكّون بأن ذلك من فعل الجنّ و حيلتهم؟
قال الملك: لا شك فيه.
قال: أ ليس، بعد ذلك، كلما فكّر بنو آدم فيما فاتها من المنافع و
المرافق يهربها منهم امتلأت حزنا و غيظا و غمّا و أسفا على ما فاتها، و حقدت على
بني الجانّ عداوة و بغضا، و أضمرت لهم حيلا و مكايد، و يطلبونهم كل مطلب، و
يرصدونهم كل مرصد، و يقع بنو الجان عند ذلك في شغل و عداوة و وجل كانوا في غنى
عنه. و قد قالت الحكماء: إن اللبيب العاقل هو الذي يصلح بين الأعداء و لا يجلب إلى
نفسه عداوة، و يجرّ المنافع إلى غيره و لا يضرّ نفسه.
قالت الجماعة: صدق الحكيم الفيلسوف الفاضل.
ثم قال القائل من الحكماء: ما الذي يخاف و يحذر من عداوة الإنس لبني
الجانّ أيها الحكيم أن ينالوهم من المكاره، و قد علمت بأن الجانّ أرواح خفيفة
نارية تتحرّك علوا طبعا، و بنو آدم أجساد أرضيّة ثقيلة تتحرّك بالطبيعة سفلا. و
نحن نراهم و لا يروننا، و نسير فيهم و لا يحسّون بنا، و نحن نحيطهم و هم لا
يمسّوننا، فأي شيء يخاف منهم علينا أيها الحكيم؟
فقال له الحكيم: هيهات! ذهب عنك عظامها و خفي عليك أجسامها، أما علمت
أن بني آدم، و إن كانت لهم أجساد أرضية ثقيلة، فإن لهم أرواحا فلكيّة، و نفوسا
ناطقة ملكيّة، بها يفضلون عليكم و يمتازون عنكم؟ و اعلموا أن لكم فيما مضى من
أخبار القرون الأولى معتبرا و مختبرا، و فيما جرى بين بني آدم و بين بني الجانّ في
الدهور السالفة دليلا واضحا.
فقال الملك: أخبرنا أيها الحكيم كيف كان، و حدّثنا بما جرى من الخطوب
و كيف تمّ ذلك.