هذه كلّها تعرض لها من أجل مقارنتها للجسد،
لأن الجسد جسم قابل للآفات و الفساد و الاستحالة و التغيّر، فأما النفس فإنها جوهرة
روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
و اعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفة أنفسهم، لتركهم النّظر
في علم النفس، و البحث عن معرفة جواهرها، و السؤال من العلماء العارفين بعلمها؛ و
لقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم و طلب خلاصها من بحر الهيولى و هاوية الأجسام، و النجاة
من أسر الطبيعة، و الخروج من ظلمة الأجسام، لشدة ميلهم في الخلود إلى الدنيا، و
استغراقهم في الشهوات الجسمانية، و الغرور باللذات الحيوانية، و الأنس بالمحسوسات
الطبيعية؛ و لغفلتهم عمّا وصف في الكتب الإلهية و النواميس الشرعيّة النبويّة من
نعيم الجنان، و ما في عالم الأرواح من الرّوح و الريحان و النعيم و السرور و اللذة
و الكرامة و بقاء الأبد التي وعد المتّقون: «فيها أنهار من ماء غير آسن، و أنهار
من لبن لم يتغيّر طعمه، و أنهار من خمر لذّة للشاربين، و أنهار من عسل مصفّى، و
لهم فيها من كل الثمرات، و النخيل و الأعناب، تتّخذون منه سكرا[1]
و رزقا حسنا، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون».
و إنما قلّة رغبتهم فيها لقلّة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء، :، و ما أشارت إليه الفلاسفة و الحكماء مما يقصر الوصف عنه من لطيف المعاني و
دقائق الأسرار، فانصرفت همم نفوسهم كلّهما إلى أمر هذا الجسد المستحيل، و جعلوا
سعيهم كلّه لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال و المآكل و المشارب و الملابس و
المناكح و المراكب، و صيّروا نفوسهم عبيدا لأجسادهم، و أجسادهم مالكة لنفوسهم، و
سلّطوا الناسوت على اللاهوت، و الظّلمة و الشياطين على النور و الملائكة، و صاروا
من حزب