كثيرة، و تجري إلى تلك المروج أنهار و جداول
من غير أن ترى عليه ثلوج و أمطار، بل تهبّ منها أبدا أرياح ليّنة، فهذا دليل على
أن في جوف هذا الجبل مغارات و كهوفا و أهويّة باردة مفرطة البرد، تجمّد الهواء
فيصير ماء، ثم ينصبّ إلى أسفله، و ينزل من مسامّ ضيّقة تجري منها تلك العيون و
الجداول إلى تلك المروج و البراري و القرى، و بها ينتفع الناس و سائر الحيوان من
الوحوش و السباع و الأنعام و الطير الذي هناك، إذ كان هذا الجبل بعيدا من البحار،
و لعلّ الغيوم قلّ ما تصل إلى هناك، لطول المسافة، و إذا تأمّلت الذي ذكرناه
تبيّنت عناية الباري، جلّ جلاله، بتقدير خلقه، و حسن سياسته لهم، و شفقته عليهم، و
كثرة ما أزاح من العلل في مرافقهم، و جرّ المنافع إليهم من كل الوجوه الممكنة من
الهيولى المتأتي فيها أفعاله.
فصل
و اعلم أن الأودية و الأنهار أكثرها تبتدئ من الجبال و التلال، و
تمرّ في جريانها نحو البحار و الآجام و الغدران، و البطائح و البحيرات، فمنها ما
هو أنهار طوال، جريانها من المشرق إلى المغرب كنهر مأوند من سجستان، فإنه يبتدئ من
جبال باميان و جبال غور، و يمرّ نحو المغرب إلى تربة كرمان ثم إلى بحر هرمز. و
منها ما يمرّ في جريانه نحو المشرق كالأرس و الكرس، و هما نهران ببلاد أذربيجان،
ابتداؤهما من جبال الروم، و يمرّان متوجهين نحو المشرق إلى بحر طبرستان، فينصبّان
فيه. و منها ما جريانه من الجنوب إلى الشمال نحو نيل مصر، فإنه يبتدئ من جبال
القمر من وراء خطّ الاستواء، و يمرّ في جريانه متوجها نحو الشّمال، إلى أن ينصبّ
في بحر الروم.
و منها ما يكون جريانه من الشّمال إلى الجنوب مثل دجلة، فإنها تبتدئ
من جبال نصيبين، و تمرّ في جريانها إلى الجنوب ثم تنصبّ إلى بحر فارس