اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، بأنك إن أنعمت النظر
بعقلك، و جوّدت الفكر برويّتك، و تأملت أمور الدّنيا، و اعتبرت تصاريف أحوال
الناس، تبيّنت و عرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدّة الرغبة
في الدّنيا، و الحرص على طلب شهواتها و لذّاتها و رئاستها، و تمنّي الخلود فيها. و
إذا تأملت و اعتبرت وجدت أسّ كل خير و أصل كل فضيلة الزّهد في الدّنيا و قلّة
الرغبة في شهواتها و نعيمها و لذّاتها، و الرغبة في الآخرة، و كثرة ذكر المعاد في
آناء الليل و أطراف النهار، و الاستعداد للرّحلة إليها.
و اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، بأن الخلق كلّهم عبيد
اللّه و أهل طاعته طوعا أو كرها، و لكن منهم خاصّ و عامّ، و ما بينهما طبقات
متفاوتة الدّرجات، فأول الخواصّ هم العقلاء الذين توجّه نحوهم الخطاب بالأمر و
النهي و الوعد و الوعيد و المدح و الذّمّ و الترغيب و الترهيب؛ ثم إن اللّه تعالى
بواجب حكمته رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء، و هم المقرّون و القابلون أوامره
و نواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس و موجبات العقول، التاركون
لما نهوا عنه سرّا و علانية. ثم إن اللّه، سبحانه، رفع من المؤمنين المقرّين
المخلصين، و اصطفى منهم طائفة و فضّلهم على غيرهم، و هم العلماء و الفقهاء الذين
اجتهدوا في تعلّم أوامر الناموس و نواهيه و أحكامه و حدوده و شرائطه بواجبها، كما
ذكر اللّه تعالى بقوله: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ».
ثم إن اللّه، جلّ اسمه، رفع من جملة العلماء طائفة، و هم التائبون
العابدون و الصالحون الورعون المتّقون المحسنون بما استحقّوا باجتهادهم من القيام
بواجبات أحكام الناموس، درجات، كما ذكر اللّه، عزّ و جلّ، بقوله: «أَمَّنْ