فبعث بلطفه أنبياءه و رسله يرغّبونهم فيها،
و يدلّونهم على طريقها كيما يطلبوها و يكونوا لها مستعدّين قبل الورود إليها، و
لكي يسهّل عليهم مفارقة ما ألفوا من الدنيا من شهواتها و لذّاتها، و تخفّ عليهم
شدائد الدنيا و مصائبها، إذ كانوا يرجون بعدها ما يغمرها و يمحو ما قبلها من نعيم
الدنيا و بؤسها، و يحذّرونهم أيضا التواني في طلبها كي لا يفوتهم ما وعدوا به،
فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا و الآخرة جميعا، و ضلّ ضلالا بعيدا، و خسر خسرانا
مبينا. فهذا رأينا و اعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربّنا، و بهذا الاعتقاد طاب
عيشنا في الدّنيا و سهل علينا الزّهد فيها و ترك شهواتها، و اشتدت رغبتنا في
الآخرة، و زاد حرصنا في طلبها، و خفّ علينا كدّ العبادة، فلا نحسّ بها، بل نرى أن
ذلك نعمة و كرامة و عز و شرف، إذ جعلنا أهلا ان نذكره، و إذ هدى قلوبنا و شرح
صدورنا و نوّر أبصارنا لما عرّفنا من كثرة إنعامه و فنون ألطافه و إحسانه.
قال الراهب: جزاك اللّه خيرا من واعظ ما أبلغه، و من ذاكر إنعاما ما
أحسنه، و من هاد رشيد ما أبصره، و طبيب رفيق ما أحذقه، و أخ ناصح ما أشفقه!
فصل
و اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، بأن الأمور الطبيعية
محيطة بنا و محتوية على نفوسنا كإحاطة الرّحم بالجنين، و كإحاطة قشرة البيضة
بمحّها[1]:
كل ذلك حرص من الطبيعة على تتميمها و تكميلها و صيانتها من الآفات
العارضة، إلى أجل معلوم، فإذا جاء وقت الخروج من هناك بعد تتميم البنية و تكميل
الصورة، فالجنين حينئذ هو الذي يحرّك أعضاءه، و يركض[2]
برجليه،