و اعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها، تقوّي الأخلاق المشاكلة
لها، كما أن النظر في العلوم و المداومة على البحث عنها، و الدرس لها، و المذاكرة
فيها، يقوّي الحذق بها و الرسوخ فيها؛ و هكذا المداومة على استعمال الصنائع، و
الدّؤوب فيها يقوّي الحذق و الأستاذيّة فيها؛ و هكذا جميع الأخلاق و السجايا. و
المثال في ذلك أن كثيرا من الصّبيان إذا نشأوا مع الشجعان و الفرسان و أصحاب
السلاح، و تربّوا معهم، تطبّعوا بأخلاقهم، و صاروا مثلهم؛ و هكذا أيضا كثير من
الصّبيان إذا نشأوا مع النّساء و المخانيث و المعيوبين، و تربّوا معهم، تطبّعوا
بأخلاقهم، و صاروا مثلهم، إن لم يكن في كلّ الخلق ففي بعض. و على هذا القياس يجري
حكم سائر الأخلاق و السجايا التي يتطبّع عليها الصّبيان منذ الصغر، إما بأخلاق
الآباء و الأمهات، أو الإخوة و الأخوات و الأتراب و الأصدقاء و المعلمين و
الأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم.
و على هذا القياس حكم الآراء و المذاهب و الديانات جميعا.
فصل
و اعلم يا أخي بأن من الناس من يكون اعتقاده تابعا لأخلاقه، و منهم
من تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده، و ذلك أن من يكون مطبوعا على طبيعة مرّيخيّة فإنه
تميل نفسه إلى الآراء و المذاهب التي يكون فيها التعصّب و الجدال و الخصومات أكثر،
و هكذا أيضا من يكون مطبوعا على طبيعة مشتريّة، فإنه تكون نفسه مائلة إلى الآراء و
المذاهب التي يكون فيها الزّهد و الورع و اللين أكثر. و على هذا القياس توجد آراء
الناس و مذاهبهم تابعة لأخلاقهم، و أما الذي تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده فهو الذي
إذا اعتقد رأيا أو ذهب مذهبا و تصوّره و تحقّق به، صارت أخلاقه و سجاياه