اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، بأن الصنائع كلها
استخرجتها الحكماء بحكمتها، ثم تعلّمها الناس منهم، و بعضهم من بعض، و صارت وراثة
من الحكماء للعامّة، و من العلماء للمتعلمين، و من الاساتذة للتلامذة.
فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماء بحكمتها، و تعلمها الناس منهم، و
استعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم و متصرّفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة.
فأما استعمال أصحاب النواميس الإلهية لها في الهياكل و بيوت
العبادات، و عند القراءة في الصّلوات، و عند القرابين و الدّعاء و التّضرّع و
البكاء، كما كان يفعل داود النّبي، 7، عند قراءة مزاميره، و كما يفعل
النّصارى في كنائسهم، و المسلمون في مساجدهم من طيّب النّغمة و لحن القراءة، فإن
كلّ ذلك لرقّة القلوب، و لخضوع النفوس و لخشوعها، و الانقياد لأوامر اللّه تعالى و
نواهيه، و التّوبة إليه من الذّنوب، و الرّجوع إلى اللّه، سبحانه و تعالى،
باستعمال سنن النّواميس كما رسمت.
و اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، ان أحد الأسباب التي
دعت الحكماء إلى وضع النّواميس، و استعمال سننها، هو ما قد لاح لهم من موجبات
أحكام النّجوم من السّعادات و المناحس، عند ابتداء القرانات و تحاويل السّنين من
الغلاء أو الرّخص، أو الجدب أو الخصب، أو القحط أو الطاعون و الوباء، أو تسلّط
الأشرار و الظالمين، و ما شاكلها من تغيّرات الزّمان و حوادث الأيام. فلما تبيّن
لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شرّا، و توفّر حظّهم فيها إن كانت خيرا،
فلم يجدوا حيلة أنجى و لا شيئا أنفع من استعمال سنن النّواميس الالهيّة التي هي
الصّوم و الصّلاة و القرابين و الدّعاء عند ذلك بالتضرّع إلى اللّه تعالى، جلّ
ثناؤه، بالخضوع و الخشوع و البكاء و السّؤال إيّاه أن يصرف عنهم ذلك، و يكشف ما قد