و لما كان ذكرنا لشرف صناعة الطب و تقدمها في المرتبة على ساير
الصنايع و المهن يبعث اهل العقول و الآداب على اقتنائها او ما تهيأ منها و يرغبهم
في اتباع أوامرها و البعد عن نواهيها و يحثهم على تشريف أهلها وجب لذلك ان اذكر
وجوها من شرفها و عيونا من فضايلها فأقول ان سائر المهن و الصنائع لا يتم ذكرها و
لا توصل الى غاياتها الا بعد تصور النفس العلم بها. و لما كان العلم للنفس الناطقة
و العمل للبدن و كانت النفس انما يتم لها العلم بالبدن اذا كان صحيحا و الصحة لما
تحفظ و تدوم او تجلب و تقوم بصناعة الطب وجب لذلك ان تكون صناعة الطب هي أشرف
الصنايع و العلم بها هو أقدم العلوم و ايضا فان الآلات التي بها تستخرج المهن و
الصنائع آلتان احداهما القياس و الآخر التجربة و غير ممكن من كل واحدة منها و لا
من اجتماعهما ان يقدروا على استخراج أصول صناعة الطب اذا كان الحس لا يصل الى ذلك
و ذلك لما نذكره و هو انا ندل أول شخص من المخلوقين حين خلق محتاجا الى الغذاء و
لم يعرف الغذاء من الدواء و كانا كلاهما من نوع النبات فانه ان تناول احدهما على
انه غذاء فقد خاطر بنفسه و غرر بخبرته لانه ان عمد الى حشيشة السقمونيا مثلا او
غيرها من الحشائش القاتلة فأكلها هلك و اذا كان الحس لا يفي بعلم ذلك و العقل فلا
سبيل له الى علم الأمور المحسوسة و لا الى تمييزها الا من جهة الحس فغير ممكن اذن
ان يعلم اصول صناعة الطب بطريق الاستدلال و القياس.
فأما فروع هذه الأصول فبغير شك ان استخراج ما استخرج منها هاتان
الآليان استخرجته و لا يوجد طريق آخر لاستخراجه اللّهم الا ان يقول قائل ان الحكم
و التكهن قد