(و من أخلاقهم رضي اللّه تعالى عنهم):
كثرة عزلتهم عن الناس و عدم كثرة مخالطتهم إلا لمصلحة شرعية، و على ذلك درج السلف
الصالح فكانوا كل يوم لا يجتمع بهم أحد فيه يعدونه يوم عبد فمن أكثر مخالطة الناس
فقد خرج عن طريق سلفه وفاته النفع و ذلك لأن من كثرة رؤية الناس له هان في عيونهم
و سقط عندهم و رأوه كأحدهم في دناءة الأخلاق و الغفلة عن اللّه تعالى.
(قلت) و ما أتذكر أنني زرت أحدا من مشايخ هذا العصر و سلم مجلسي معه
من الغيبة إلا قليل فلذلك أقللت من زيارتهم خوفا على ديني و دينهم لا تساهلا في
حقهم، فإذا كان هذا حكم مجالس الأشياخ فكيف بغيرهم فاحفظ نفسك يا أخي كل الحفظ إذا
زرت أحدا في هذا الزمان و لا تتهاون بذلك، و كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي
اللّه عنه يقول: خذوا حظكم من العزلة، و كان طلحة بن عبيد اللّه رضي اللّه عنه
يقول: من أراد أن يقل من معرفة الناس لعيوبه فليجلس في بيته، فمن خالط الناس سلب
دينه و لا يشعر.
و كان حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه يقول: وددت أن أغلق باب داري
فلا أخرج لأحد حتى أموت، و كان الشعبي رحمه اللّه تعالى يقول: لم يجلس الربيع بن
خيثم رحمه اللّه تعالى في مجلس قومه طول عمره إلا مرة واحدة جلس على باب داره فسقط
عليه حجر فشج رأسه لا يدري من رماه فقام و قال: لقد وعظت يا ربيع ثم لم يخرج من
بيته بعد ذلك إلا لضرورة حتى مات رحمه اللّه، و كان يقول من جلس على الطريق فليؤده
حقه و ذلك برد السلام و نصرة المظلوم و الشهادة على الظالم و معاونة كل من كان في
ضرورة.
و كان أبو حازم رحمه اللّه تعالى يقول: قل من يطيل مجالسة أخيه إلا و
يقع من أحدهما ما يكره الآخر. فينبغي لكل من الأخوين أن لا يلقي أخاه إلا غبا، و
كان أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه يقول: سيأتي على الناس زمان لا يستقيم لهم
الملك إلا بالقتل و التجبر لا يستقيم لهم الغنى إلا بالبطر و البخل و لا يستقيم له
صحبة إلا باتباع الهوى فمن أدرك ذلك الزمان و صبر و حفظ نفسه أعطاه اللّه تعالى
ثواب خمسين صديقا ا ه، و كان رضي اللّه عنه يقول: بلغنا أنه لا تكون الراحة لمؤمن
في آخر الزمان إلا إن كان خامل الذكر بين الناس.
و قد بلغ الفضيل بن عياض إن ولده عليا رحمهما اللّه تعالى يقول: وددت
إني بمكان أرى الناس منه و لا يروني، فقال أبوه: هلا أتمها، فقال: لا أراهم و لا
يروني، و كان وهيب بن