أحدهم كان يتناول نحو الزبيبة و نحو القطرة
من الماء ليخرج بذلك عن الوصال المنهي عنه و ذلك هو الظن بهم و اللّه أعلم.
و قد أجمع القوم على أن الجوع من أعظم أركان الطرق حتى قالوا إذا طلب
المريد الأكل بعد خمسة أيام فأمروه بالكسب فإنه لا يصح منه في الطريق، و كان أبو
عثمان الجيزي رحمه اللّه تعالى يقول: كنت أمكث السنة كاملة في بداية أمري و سياحتي
لا يخطر الأكل على بالي إلا إن حضر بين يدي ا ه، فانظر يا أخي جوعك تجده كلا شيء
بالنسبة لجوع هؤلاء القوم رضي اللّه عنهم مع أن جوعهم لم يخرج عن السنة كما مر
تقريره لقوتهم عليه، و ما نهى عن الجوع بالأصالة إلا لخوف الضرر على النفس.
و كان سهل بن عبد اللّه التستري رحمه اللّه تعالى يقسم عقله و قوته و
معرفته إلى سبعة أجزاء فكان لا يأكل حتى يذهب من كل واحدة ستة و يقول لو لا أخاف
الهلاك كنت لا آكل حتى تفنى السبعة أجزاء، فاعلم ذلك و الحمد للّه رب العالمين.
السلامة
(و من أخلاقهم رضي اللّه تعالى عنهم):
تقديمهم السلامة على الغنيمة من حيث رفض الدنيا و فراغ يدهم منها فكانوا يقدمون
فراغ يدهم من الدنيا و إنفاقها في سبيل اللّه تعالى خوفا أن يمنعوا منها حقها حتى
كان أحدهم يقول يا طالب الدنيا لتبر بها غيرك تركك لها أبر و أبر، و كان الجنيد
رحمه اللّه يقول: تجريد العبد من الدنيا أفضل من جمعها و إنفاقها.
و قد كانوا إذا قيل لأحدهم خذ هذه الدراهم ففرقها على المساكين يأبى
ذلك و يقول: إن من جمعها أولى بتفرقتها و ربما يكون فيها حرام و شبهة فتكون الهناء
للفقراء و التبعة على من فرق، و كان الحسن البصري رحمه اللّه تعالى يقول: إن من
تفرغ لعبادة ربه أفضل ممن تركها و سعى على عياله، و قد كان إبراهيم بن أدهم رحمه
اللّه تعالى يقول: إن بينكم و بين القوم بعدا أقبلت عليهم الدنيا ففروا منها و
أدبرت عنكم فتبعتموها، و كان الفضيل بن عياض رحمه اللّه تعالى يقول: تجرع مرارة
الدنيا أشد من تجرع مرارة الصبر، و كان مالك بن دينار رحمه اللّه تعالى يقول: لا
يبلغ أحد منازل الصديقين حتى يترك زوجته و كأنها أرملة و أولاده و كأنهم يتامى.