هذه الجملة، رجعنا الي تأويل الآية، و هو قوله: (يضل به كثيراً) معناه أن الكافرين لما ضرب الله لهم الأمثال قالوا: ما الحاجة اليها! قال الله تعالي: فيها أعظم الفائدة: لأنها محنة و اختبار. و بهما يستحق الثواب، و يوصل إلي النعيم.
فسمي المحنة اضلالا و هداية، لأن المحنة إذا اشتدت علي الممتحن و ثقلت فضل عندها، جاز أن تسمي اضلالا، فإذا سهلت فاهتدي عندها، سميت هداية، کما أن الرجل يقول لصاحبه: ما يفعل فلان! فيقول هو ذا. يسخي قوماً و يبخل قوماً آخرين أي يسأل قوماً فيشتد عليهم للعطاء فيبخلون، و يسأل آخرين، فيسهل عليهم فيعطون و يجودون، فسمي سؤاله باسم ما يقع عنده و يعقبه. فمعني قوله: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهدِي بِهِ كَثِيراً» أي يمتحن به عباده، فيضل به قوم كثير، و يهتدي به قوم كثير. و لا يجب علي ذلک أن يکون أراد إضلالهم. کما لا يجب ذلک في السائل ألذي لا يريد بخل المسئول، بل يريد إعطاءه فان قيل: أليس اللّه تعالي امتحن بهذه الأمثال المؤمنين کما امتحن بها الكافرين، فيجب أن يکون مضلا لهم! قلنا: إنما سمي المحنة الشديدة إضلالا إذا وقع عندها الضلال کما أن السؤال يسمي تبخيلا إذا وقع عنده البخل.
و قال قوم: معني قوله: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً» يعني يضل بالتكذيب بهذه الأمثال كثيراً و يهدي بالايمان كثيراً، لأنه لو کان سبباً للضلال لما وصفه اللّه بأنه هدي و بيان و شفاء لما في الصدور. و حذف التكذيب و الإقرار اختصاراً، لأن في الكلام ما يدل عليه. کما يقول القائل: نزل السلطان فسعد به قوم و شقي به آخرون. و انما يراد به سعد بإحسانه قوم و شقي بإساءته آخرون. لا بنزول جيشه، لأنه نفسه لا يقع به سعادة و لا شقاء. و کما قال: «وَ أُشرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجلَ» و انما أراد حب العجل. و ذلک كثير. و قد بينا أن الإضلال و الهداية يعبر بهما عن العذاب و الثواب، فعلي هذا يکون تقدير الآية: يضل أي يعذب بتكذيب القرآن، و الأمثال كثيراً، و يهدي أي يثيب بالإقرار به كثيراً. و الدليل علي