responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 9

بحوث


1 ـ ما هي جنّة آدم(عليه السلام)؟
يبدو أن الجنّة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض، لم تكن الجنّة التي وُعد بها المتقون. بل كانت من جنان الدنيا، وصقعاً منعّماً خلاّباً من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك: يأوّ: الجنّة الموعودة في القيامة نعمة خالدة، والقرآن ذكر مراراً خلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها. ثانياً: إبليس الملعون ليس له طريق للجنّة، وليس لوسوسته مكان هناك. ثالثاً: وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) روايات تصرّح بذلك.
منها ما روي عن الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) أنه سئل عن جنّة آدم، فقال: «جَنَّةٌ مِنْ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، يَطْلَعُ فِيهَا. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنَانِ الاْخِرَةِ مَا خَرَجَ مِنْهَا أبَداً»(219).
من هذا يتضح أن هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانياً بل مقامياً. أي أنه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنّة المزدانة.
من المحتمل أيضاً أن تكون هذه الجنّة غير الخالدة في إحدى الكواكب السماوية، وفي بعض الرّوايات الإِسلامية إشارة إلى أن هذه الجنّة في السماء. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود بالسماء في هذه الرّوايات «المقام الرفيع» لا «المكان المرتفع».
على كل حال، توجد شواهد كثيرة على أن هذه الجنّة هي غير جنّة الخلد الموعودة. لأَن جنّة آدم بداية مسير الإِنسان وجنّة الخلد نهايتها. وهذه مقدمة لأعمال الإِنسان ومراحل حياته، وتلك نتيجة أعمال الإِنسان ومسيرته.  2 ـ ما هو ذنب آدم؟

المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة، فهو خليفة الله في الأرض ومعلم الملائكة، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة، وهو الذي سجدت له ملائكة الله المقربين. ومن المؤكد أن آدم هذا لا يصدر عنه ذنب، إضافة إلى أنه كان نبيّاً، والنّبي معصوم.
من هنا يطرح سؤال عن نوع العمل الذي صدر عن آدم. وتوجد لذلك ثلاثة تفسيرات يكمل بعضها الآخر.
1 ـ ما ارتكبه آدم كان «تركاً للأولى» أو بعبارة اُخرى كان «ذنباً نسبياً»، ولم يكن «ذنباً مطلقاً».
الذنب المطلق، وهو الذنب الذي يستحق مرتكبه العقاب أياً كان، مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان. والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن يفعله لعلوّ منزلة ذلك الشخص، وإن كان إرتكابه مباحاً، بل مستحباً أحياناً من قبل الأفراد العاديين. على سبيل المثال، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة، وبعدم حضور القلب تارة اُخرى. وهذه الصلاة تتناسب وشأننا، لكن مثل هذه الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). صلاة الرّسول ينبغي أن تكون يبأجمعها اتصا عميقاً بالله تعالى، وإن فعل الرّسول غير ذلك فلا يعني أنه ارتكب محرّماً، بل يعني أنه ترك الاُولى.
وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة، وإن كان الأكل منها غير محرّم بل «مكروهاً».
2 ـ نهي الله لآدم إرشادي، مثل قول الطبيب: لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض. والله سبحانه قال لآدم: لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنّة. وآدم في أكله من الشجرة خالف نهياً إرشادياً.
ي3 ـ الجنّة التي مكث فيها آدم لم تكن مح للتكليف، بل كانت دورة إختبارية وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض. وكان النهي ذا طابع إختياري(220).
3 ـ المقارنة بين معارف القرآن والتوراة:

أكبر مفاخر آدم وأعظم نقاط قوته التي جعلته زبدة الكون ومسجود الملائكة هي ـ كما يظهر من الآيات ـ تعليمه الأسماء وإطلاعه على حقائق الكون وأسراره.
واضح أن آدم خُلق لهذه العلوم، وأبناء آدم ـ إن أرادوا التكامل ـ عليهم أن يستزيدوا من هذه العلوم، وتكاملهم يتناسب مرادفاً مع معلوماتهم عن أسرار الخليفة.
نعم، القرآن يصرّح بأن عظمة آدم تكمن في هذه النقطة. ولكن التوراة تذهب إلى أن سبب خروج آدم من الجنّة وخطيئته الكبرى هو اتجاهه نحو العلم ومعرفة الصالح والطالح!
جاء في الفصل الثاني من «سفر التكوين» من التوراة: «وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ ووَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْن لَيَعْلَمَهَا وَيَحْفَظَهَا. وَأَوْصَى الرَّبُ الإلَهُ ييآدَمَ قَائِ مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ آكْ. وَأَمَّا شَجَرَةٌ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا. لاَِنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ».
وجاء في الفصل الثالث من التوراة: «وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِياً فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ. فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَإمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسْطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ أَيْنَ أَنْتَ. فَقَالَ سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لاَِنّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأَتُ. فَقَالَ مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَان. هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا. فَقَالَ آدَمُ: الْمَرَأَةُ الَّتي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ. ...
وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ هُوَ ذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِد مِنَّا عَارِفاً الْخَيْرَ وَالشَّرَ، وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرِةِ الحَيوة أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْن لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتي أُخِذَ مِنْهَا. فَطَرَدَ الإِنْسَانَ وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْن الْكَرُوبيمَ وَلَهِيبَ سَيْف مُتَقَلَّب لِحَرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيوة»!!
من هذه «الأُسطورة التافهة»، التي تعرضها التوراة الحالية باعتبارها واقعاً تاريخياً يتبين لنا رأي التوراة الحالية في سبب خروج آدم من الجنّة، فهو على رأي هذه الأُسطورة معرفة آدم بالخير والشر، وذنبه الأكبر هو الإِتجاه نحو العلم والمعرفة!!
يوإن لم يمدّ آدم يدَه إلى «شجرة الخير والشّر» لبقي جاه حتى بقبح التعرّي، ولما أُخرج من الجنّة، بل كان فيها خالداً.
فيا عجباً، لِمَ إذاً حزن آدم على خروجه من الجنّة إذا كان خروجه قد اقترن بإكتسابه العلم والمعرفة وبتمييزه بين الخير والشر، إنها صفقة رابحة تلك التي حصل عليها آدم، فلماذا ندم عليها؟!
ويتضح من ذلك أنّ أُسطورة التوراة تقع في النقطة المقابلة للإِتجاه القرآني الذي يرى أن مكانة الإِنسان ومقامه وسرّ خلقته تكمن في «تعليمه الأسماء».
أضف إلى ما سبق أن هذه الأُسطورة تتضمّن مفاهيم مشينة مخجلة بشأن الله سبحانه وبشأن المخلوقات، كل واحدة منها تثير الدهشة أكثر من غيرها، وهي عبارة عن:
1 ـ نسبة الكذب إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً (كما جاء في الجملة 17 من الاصحاح الثاني: أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها: لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت)!
2 ـ نسبة البخل إلى الله سبحانه (كما جاء في الجملة 22 من الاصحاح الثالث: وقال الرب الإِله هو ذا الإِنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر. والآن لعله يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الإبد)!.
3 ـ إمكان وجود الشريك لله تعالى (كما في العبارة السابقة: قد صار كواحد منا).
4 ـ نسبة الحسد إلى الله (ويستفاد ذلك من العبارة السابقة أيضاً).
5 ـ تجسيم الله سبحانه (... وسمعا صوت الرب الإِله ماشياً في الجنّة عند هبوب ريح النهار)!
6 ـ نسبة الجهل إلى الله بالحوادث التي تقع قريباً منه (كما تقول هذه التوراة: فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإِله في وسط شجر الجنّة. فنادى الرب الإِله آدم وقال له: أين أنت؟!).
(ولابدّ من التأكيد هنا أن هذه الخرافة لم تكن في التوراة المنزلة، بل أُضيفت فيما أضيف إلى التوراة).
4 ـ المقصود من الشّيطان في القرآن

كلمة الشيطان من مادة «شطن» و«الشاطن» هو الخبيث والوضيع. والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي، إنساناً كان أو غير إنسان، وتعني أيضاً الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.
والشّيطان اسم جنس عام، وإبليس اسم علم خاص، وبعبارة اُخرى، الشيطان كل موجود مؤذ مغو طاغ متمرّد، إنساناً كان أم غير إنسان ، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوماً.
من مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن يفهم أن كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بث الفرقة والفساد والاختلاف. مثل قوله تعالى:
(إِنَّما يُريدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ...)(221).
وفي استعمال فعل المضارع «يريد» دلالة على استمرار إرادة الشيطان على هذا النحو.
والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإِلهية، كقوله تعالى:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الاِْنْسِ وَالْجِنِّ)(222).
كلمة الشيطان أُطلقت على إبليس أيضاً بسبب فساده وإنحرافه.
والميكروبات المضرّة تشملها كلمة الشيطان أيضاً، كما ورد عن علي أمير المؤمنين(عليه السلام): «لاَ تَشْرَبُوا الْمَاءَ مِنْ ثُلْمَةِ الاِْنَاءِ وَلاَ مِنْ عُرْوَتِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَقْعُدَ عَلَى الْعُرْوَةِ وَالثُّلْمَةِ»(223).
وروي عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «وَلاَ يُشْرَبُ مِن أُذُنِ الْكُوْزِ، وَلاَ مِنْ كَسْرِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ، فَأِنَّهُ مَشْرَبُ الشَّيَاطِين»(224).
وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «لاَ يُطَوِّلَنَّ أَحَدُكُمْ شَارِبَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَّخِذُهُ مَخْبَئاً يَسْتَتِرُ بِهِ»(225).
ومن الواضح أننا لا نقصد أن معنى كلمة الشيطان هو الميكروب أينما وردت هذه الكلمة، بل نقصد أن الكلمة لها معان متعددة، أحد مصاديقها الواضحة «إبليس» وجنده وأعوانه. ومصداقها الآخر أفراد البشر المفسدون المنحرفون. ووردت في مواضع اُخرى بمعنى الميكروبات المؤذية (تأمل بدقّة)!
5 ـ لماذا خُلق الشيطان؟!

يثار أحياناً سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي. وفي الجواب نقول: يأوّ: لم يخلق الله الشيطان، شيطاناً. والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة الله وعلى الفطرة الطاهرة. لكنه بعد تحرره أساء التصرف، وعزم على الطغيان والتمرّد. إنه إذن خلق طاهراً، وسلك طريق الإِنحراف مختاراً. ثانياً: وجود الشيطان لا يسبب ضرراً للأفراد المؤمنين، ولطلاب طريق الحق، في منظار نظام الخليقة. بل إنه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم، إذ إن التطوّر والتقدّم يتم من خلال صراع الأضداد.
بعبارة أوضح: قوى الإنسان وطاقاته الكامنة لا تتأهب ولا تتفجر إلاّ حينما يواجه الإِنسان عدواً قوياً. هذا العدوٌ يؤدّي إلى تحريك طاقات الإِنسان وبالتالي إلى تقدّمه وتكامله.
الفيلسوف المعاصر «توينبي» يقول: «لم تظهر في العالم حضارة راقية إلاّ بعد تعرّض شعب من الشعوب إلى هجوم خارجي قوي. وهذا الهجوم يؤدي إلى تفجير النبوغ والكفاءات، لصنع مثل هذه الحضارة».

* * *


الآيات



فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَـت فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ__ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ__ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَايَـتِنَآ أُولَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدوُنَ__

التّفسير


عودة آدم(عليه السلام) إلى الله
بعد حادثة وسوسة إبليس، وصدور الأمر الإِلهي لآدم بالخروج من الجنّة، فهم آدم أنه ظلم نفسه، وأنه أُخرج من ذلك الجوّ الهاديء المنعّم على أثر إغواء الشيطان، ليعيش في جوّ جديد مليء بالتعب والنصب. وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشدّ الندم.
وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية (فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الْرَّحِيمُ).
«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة»، وهي في التعبير القرآني، بمعنى العودة عن الذنب، إن نُسبت إلى المذنب. وإن نسبت كلمة التوبة إلى الله فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في التعبير القرآني.
بعباة اُخرى «توبة» العبد عودته إلى الله، لأن الذنب فرار من الله والتوبة رجوع إليه. وتوبة الله، إغداق رحمته على عبده الآيب(226).
صحيح أن آدم لم يرتكب محرّماً، ولكن ترك الأَولى يعتبر معصية منه. ولذلك سرعان ما تدارك الموقف، وعاد إلى خالقه.
وسنتحدث فيما بعد عن المقصود بــ «الكلمات» في الآية.
على أيّ حال، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث ـ أو ما ينبغي أن يحدث ـ وقُبلت توبة آدم. لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير، كما يذكر القرآن: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدىً، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

* * *


بحوث


1 - الكلمات التي تلقاها آدم
تعددت الآراء في تفسير «الكلمات»، التي تلقاها آدم(عليه السلام) من ربّه.
المعروف أنها الكلمات المذكورة في الآية 23 من سورة الأعراف: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَم تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقال آخرون أن المقصود من الكلمات هذا الدعاء: «اَللَّهُمَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرينَ».
«اَللَّهُمَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَارْحَمْنِي إِنَّكَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ».
«اَللَّهُمَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
وهذا ما نقل في رواية عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام)(227).
مثل هذه التعابير ذكرها القرآن على لسان يونس وموسى(عليهما السلام). يونس ناجى ربّه فقال: (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(228). وموسى أيضاً: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ)(229).
وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت(عليهم السلام) أن المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات الله وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ وآدم توسل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.
هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها، ولعلّ آدم تلقى من ربّه كل هذه الكلمات، كي يحدث فيه تغيير روحي تام بعد أن يعي حقيقة هذه الكلمات، وليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.
2 ـ سبب تكرار جملة «اهْبِطُوا»


الأمر بالهبوط تكرر في الآيتين: 36 و 38 من هذه السّورة، أي قبل توبة آدم وحواء وبعدها. للمفسرين رأيان في سبب التكرار، بعضهم قالوا للتأكيد، وآخرون قالوا إن موضوع الجملة الاُولى يختلف عن موضوع الجملة الثانية.
والظاهر أن الجملة الثانية توضح لآدم مسألة عدم إنتفاء الأمر بالهبوط في الأرض بعد قبول التوبة، وعدم الإِنتفاء هذا يعود إمّا إلى أن آدم قد خلق منذ البداية لهذا الهدف، أو لأن هذا الهبوط أثر وضعي لعمله. وهذا الأثر الوضعي لا يتغير بالتوبة.
3 ـ من هم المخاطبون في جملة «اهْبِطُوا»؟

الضمير في «اهبطوا» للجمع، بينما عدد المخاطبين إثنان فقط، هما آدم وزوجه. والجمع هنا ناظر إلى النتيجة التي تستتبع هبوط آدم وحواء في الأرض. فأبناؤهما وأجيال البشر بعدهما سيستقرون على هذه المعمورة.

* * *


الآية



يَـبَنِى  إِسْر ءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّـىَ فَارْهَبُونِ__

التّفسير


ذكر النِّعم الإِلهية
مرّت بنا في الآيات السابقة قصّة خلافة آدم في الأرض، وموقف الملائكة منه، ثم نسيانه العهد الإِلهي وهبوطه إلى الأرض، وبعد ذلك توبته.
ومن أحداث قصّة آدم(عليه السلام)، اتضح أن الساحة الكونية تنطوي دوماً على قوتين: قوّة الحق وقوّة الباطل. وهاتان القوتان متقابلتان ومتصارعتان، ومن اتبع الشيطان في هذا الصراع فقد اختار طريق الباطل، ومصيره الابتعاد عن الجنّة والسّعادة، ومعاناة المصائب والآلام، ومن ثمّ الندم. ومن إلتزم بأوامر الله ونواهيه وتغلب على وساوس الشيطان وأتباعه، فقد سار على طريق الحق، وابتعد عن نكد العيش وضنكه وآلامه.
لما كانت قصّة بني إسرائيل ابتداءً من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض، ومروراً بنسيان العهد الإِلهي، وانتهاءً بسقوطهم في حضيض الإِنحراف والعذاب والمشقة، تشبه إلى حد كبير قصة آدم، بل هي فرع من ذلك الأصل العام، فإن الله سبحانه في آية بحثنا وعشرات الآيات الاُخرى التالية، بيّن مقاطع من حياة بني إسرائيل ومصيرهم، لإِكمال الدرس التربوي الذي بدأ بقصة آدم.
يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول: (يَا بني إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوفُوا بِعَهْدِي اُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبِونِ).
الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي: تذكّر النعم الإِلهية، والوفاء بالعهد، والخوف من الله، تشكل المنهج الإِلهي الكامل للبشرية.
تذكّر النعم الإِلهية يحفّز الإِنسان للإِتجاه نحو معرفة الله سبحانه وشكره. واستشعار العهد الإِلهي الذي يستتبع النعم الإِلهية يدفع الكائن البشري إلى النهوض بمسؤولياته وواجباته. ثم الخوف من الله وحده ـ دون سواه ـ يمنح الإِنسان العزم على تحدّي كل العقبات التي تقف بوجه تحقيق أهدافه والإِلتزام بعهده. لأن التخوف الموهوم من هذا وذاك أهم موانع الإِلتزام بالعهد الإِلهي. وظاهرة الخوف كانت متغلغلة في أعماق نفوس بني إسرائيل نتيجة السيطرة الفرعونية الطّويلة عليهم.

* * *


بحوث


1 ـ اليهود في المدينة
يحتل الحديث عن اليهود قسماً هاماً من سورة البقرة، التي هي أوّل سورة نزلت في المدينة كما صرح بذلك بعض العلماء، لأنّ اليهود كانوا أشهر مجموعة من أهل الكتاب في المدينة، وكانوا قبل ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ي ينتظرون رسو بشّرت به كتبهم الدينيّة، كما أنهم كانوا يتمتعون بمكانة إقتصادية مرموقة، ولذلك كله كان لليهود نفوذ عميق في المدينة.
ولمّا ظهر الإِسلام، باعتباره الرسالة التي تقف بوجه مصالحهم اللامشروعة وإنحرافاتهم وَغَطْرَسَتِهِمْ، فمضافاً إلى عدم إيمانهم به وقفوا بوجه الدعوة، وبدأوا يحوكون ضدها المؤامرات التي لا زالت مستمرة بعد أربعة عشر قرناً من البعثة النبوية المباركة.
الآية المذكورة وآيات تالية أنحت باللائمة الشديدة على اليهود، وهزت عواطفهم بذكر مقاطع حساسة من تاريخهم، بحيث لو كان لأحدهم قليل من الموضوعية لإِستيقظ واتجه نحو الإِسلام. كما إن هذا السرد لتاريخ اليهود درس مليء بالعبر للمسلمين.
وسنقف في آيات تالية بإذن الله عند دروس من تاريخ اليهود، مثل نجاتهم من فرعون، وانفلاق البحر لهم، وغرق الفرعونيين، وميعاد موسى في جبل الطور، وعبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى، والأمر بالتوبة وقتل النفس، ونزول النعم الخاصة الإِلهية، وأمثالها من الدروس.

* * *


2 ـ ميثاق بني إسرائيل:

ميثاق بني إسرائيل الإِلهي يتكون من اثني عشر بنداً، عشر منها ذكرت في آيتين متواليتين من هذه السّورة.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ، وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَاناً، وَذِي الْقُرْبى، وَالْيَتَامى، وَالمَسَاكِينِ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَأتُوا الزَّكَاةَ ... وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(230).
وبندان ذكرا في الآية الكريمة:
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ...)(231).
وهما: الإِيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.
كانَ بنو إسرائيل قد وُعدوا بالنعيم إن وفوا بعهودهم، (وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ) لكنهم نقضوا الميثاق، ولا يزالون حتى اليوم ينقضونه.
وكان نتيجة ذلك التشتيت والتشريد، وسيبقون كذلك ما داموا ناكثين. وإذا رأينا لهم يوماً جولة وضجيجاً بفضل الدعم الإِستكباري لهم، فإن هذه الجولة سرعان ما ستخبو إن شاء الله أمام صولة أبناء الإِسلام ... وها نحن نرى في الأُفق بوادر الصحوة الإِسلامية التي تدفع بالشباب أن يتخلوا عن المدارس الفكرية المنحرفة والإِتجاهات القومية والعنصرية الكافرة ويقضوا على هذا الضجيج.

* * *

  3 ـ وفاء الله بعهده

نعم الله تستتبعها دوماً قيود وشروط، وإلى جانب كل نعمة، مسؤولية و شرط.
عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في قوله الله عزّ وجلّ: (أوفوا بعَهْدِي)قال: قال بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام)«أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أُوفِ لَكُمْ بِالْجَنَّةِ»(232).
ولا عجب إنْ ورد الإِيمان بولاية علي(عليه السلام) في هذا الحديث، باعتباره جزءاً من العهد. لأن الإِيمان بالأنبياء ومؤازرتهم، من بنود العهد مع بني إسرائيل، ويستتبع ذلك الإِيمان بخلفاء الأنبياء باعتبارهم إمتداداً لمسألة القيادة والولاية وهذه المسألة ينبغي تحققها بشكل يتناسب مع زمانها. موسى(عليه السلام) في زمانه كان يتولى مسؤولية القيادة والولاية، والرّسول الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي كان يتولى هذه المسؤولية في عصره، ثم تولاّها في زمن تال علي بن أبي طالب(عليه السلام).
جملة (إِيّايَ فَارْهَبُونِ) تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإِلهي، وعلى الخوف من الله وحده دون سواه، وهذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل «إيّاي» على جملة «فَارْهَبُونِ».

* * *

  4 ـ لماذا سمي اليهود «بني إسرائيل»؟

«إسرائيل» أحد أسماء يعقوب والد يوسف، وفي سبب تسمية يعقوب بهذا يالاسم، ذكر المؤرّخون غير المسلمين عل ممزوجة بالخرافة.
ورد في «قاموس الكتاب المقدس»: «أن إسرائيل تعني الشخص المنتصر على الله»!! ويقول: «وهذه الكلمة لُقِّبَ بها يعقوب بن إسحاق بعد أن صرع الملك الإِلهي».
ويقول تحت عنوان «يعقوب»: إنه أثبت مقاومته واستقامته وإيمانه، وفي هذه الحالة غيّر الله اسمه إلى «إسرائيل»، ووعده أن يكون أباً لكل الطوائف ... ثم مات بعد أن هرم، ودفن كما يدفن السلاطين الدنيويون وأُطلق اسم يعقوب وإسرائيل على جميع قومه».
ويقول تحت كلمة «إسرائيل»: «لهذا الاسم معان كثيرة، يقصد به أحياناً نسل إسرائيل ونسل يعقوب»(233).
أمّا علماؤنا كالمفسر المعروف «الطبرسي(رحمه الله)» فيقول في «مجمع البيان»: إن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم(عليه السلام) وإن «اسر» تعني «العبد» و«ئيل» بمعنى الله، فيكون معنى إسرائيل عبد الله.
واضح أن ما تتحدث عنه التوراة من مصارعة بين يعقوب والملك الإِلهي، أو بين يعقوب والله، خرافة وسخافة لا تتناسب إطلاقاً مع الكتاب الإِلهي، وهي أوضح دليل على تحريف التوراة الموجودة.

* * *


الآيات



وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِـمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِر بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِـايـتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّـىَ فَاتَّقُونِ__ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَـطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُم تَعْلَمُونَ __وَأَقِيمُواْ الصَّلَو ةَ وَءَاتُواْ الزَّكَو ةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّ كِعِينَ__

سبب النّزول


ذكر بعض المفسرين العظام رواية عن الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): في سبب نزول هذه الآية قال: «كَانَ حَيُّ بن أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أَشْرَفَ وَآخَرُونَ مِنَ الْيَهُودِ، لَهُمْ مَأْكَلَة عَلَى الْيَهُودِ في كُلِّ سَنَة، فَكَرِهُوا بُطْلاَنَهَا بِأَمْرِ النَّبِيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فَحَرَّفُوا لِذَلِكَ آيَات مِنَ التَّوْرَاةِ فِيهَا صِفَتُهُ وَذِكْرُهُ فَذَلِكَ الَّثمَنُ الَّذي أُرِيدَ فِي الاْيَةِ»(234).

التّفسير


جشع اليهود
الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة من بنود العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
يقول تعالى: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم)، فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب. أي أن البشائر التي زفتها التوراة والكتب السماوية الاُخرى بشأن النّبي الخاتم، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النّبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى القرآن المنزل عليه. فلماذا لا تؤمنون به؟!
ثمّ يقول سبحانه: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِر بِهِ) أي ـ لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكة ـ كفّاراً بالرسالة، بل العجب في كفركم، بل في كونكم روّاداً للكفر، وسباقين للمعارضة. لأنكم أهل الكتاب، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النّبي، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره. فما عدى ممّا بدا؟ ولماذا كنتم أول كافر به؟!.
إنه تعنتهم الذي لولاه لكانوا أول المؤمنين برسالة النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم).
المقطع الثالث من الآية يقول: (يوَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِي).
يآيات الله، لا ينبغي ـ دون شك ـ معاوضتها، بأي ثمن، قلي كان أم كثيراً. وفي تعبير هذه الآية إشارة إلى دناءة هذه المجموعة من اليهود، التي تنسى كل إلتزاماتها من أجل مصالحها التافهة. هذه الفئة، التي كانت قبل البعثة من المبشرين بظهور نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبكتابه السماوي، أنكرت بشارات التوراة وحرفتها، حين رأت مصالحها معرضة للخطر، وعلمت أن مكانتها الإِجتماعية معرضة للإنهيار عند انكشاف الحقيقة للناس.
في الواقع، لو اُعطيت الدنيا بأجمعها لشخص ثمناً لإِنكار آية واحدة من يآيات اللّه، لكان ثمناً قلي، لأنّ هذه الحياة فانية، والحياة الاُخرى هي دار البقاء والخلود. فما بالك بإنسان يفرّط بهذه الآيات الإِلهية في سبيل مصالحه التافهة؟!
في المقطع الرابع تقول الآية: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)، والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الذين يخشون أن ينقطع رزقهم، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم، وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.
في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل (وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ).
وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق: (... وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
كتمان الحق، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة، والآية تقول لهم: قولوا الحق ولو على أنفسكم، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت مصالحكم الآنية للخطر.
البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبينه قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
البند الأخير يأمر بالصلاة جماعة، غير أن «الركوع» هو الذي ذكر دون غيره من أجزاء الصلاة، ولعل ذلك يعود إلى أنّ صلاة اليهود كانت خالية من الركوع، تماماً، بينما احتل الركوع مكان الرّكن الأساسي في صلاة المسلمين.
ومن الملفت للنظر أنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة»، بل قالت: (أقيموا الصَّلاَةَ)، وهذا الحث يحمّل الفرد مسؤولية خلق المجتمع المصلي، ومسؤولية جذب الآخرين نحو الصلاة.
بعض المفسرين قال إن تعبير «أَقيمُوا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة، وعدم الاكتفاء بالاذكار والاوراد، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى الله سبحانه، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلي للإنسان(235).
يهذه الأوامر الأخيرة تتضمن في الحقيقة: أو بيان إرتباط الفرد بخالقه (الصلاة)، ثمّ إرتباطه بالمخلوق (الزكاة)، وبعد ذلك إرتباط المجموعة البشرية مع بعضها على طريق الله!.

* * *

نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 9
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست