responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 1
الأمثل من جديد


لكلّ عصر خصائصه و ضروراته و متطلباته، و هى تنطلق من الأوضاع الإجتماعيّه والفكريّة السائدة في ذلك العصر، ولكلّ عصر مشاكله و ملابساته النّاتجة من تغيير المجتمعات والثّقافات، و هو تغيير لا ينفك عن مسيرة المجتمع التّاريخيّة الفكرية الفاعلة، هو ذلك الّذي فهم الضّرورات والمتطلبات، وادرك المشاكل والملابسات.
هذا ما قاله البحاثة الفريد الفقيه والمفسر المعاصر الأمثل، العلاّمة آية الله العظمى مكارم الشّيرازي في دوافع تأليف تفسيره الأمثل.
ويقول: واجهنا دوماً أسئلة وردت الينا من مختلف الفئات ـ وخاصة الشباب المتعطّش الى نبع القرآن ـ عن التّفسير الأفضل.
هذه الأسئلة تنطوي ضمنياً على بحث عن تفسير يبيّن عظمة القرآن عن تحقيق و لا عن تقليد و يُجيب على ما في الساحة من احتياجات و تطلّعات و آلام وآمال ... تفسير يجدي كل الفئات، و يخلو من المصطلحات العلميّة المعقّدة. و هذا التّفسير دوّن على أساس هذين الهدفين.
ولتنفيذ هذا الهدف العظيم، صمّم قسم التّرجمة والنّشر لمدرسة الامام أميرالمؤمنين(عليه السلام)بعرض جديد لكامل التّفسير الأمثل، فأعاد النظر وإمعان فيه بدقّة، مع تصحيح الأخطاء المطبعيّة والإنشائيّه و الإملائيّة، و اضافة كثير من الاحاديث الّتي كانت محذوفة في الطبعة الاُولى.
ونثمّن جهود وإشراف سماحة حجة الإسلام والمسلمين المحقّق الشّيخ مهدي الأنصاري، وكذلك نشكر الإخوة حجة الإسلام السيّد أحمد القبانچي والأخ الفاضل الشّيخ هاشم الصّالحي بمساهمتهما في هذا المهم وداما مشكورين.
نأمل أن يكون مقبولاً لدى الباري عزّ إسمه وجميع الباحثين في حقائق القرآن الكريم.

قسم التّرجمة والنّشر لمدرسة الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام)


بِسْمِ الله الرّحْمنِ الرَحيمِ


المقدّمة


ما هو التّفسير؟


التّفسير في اللغة الإِبانة وإماطة اللّثام.
ولكن هل يحتاج القرآن إلى إبانة وإماطة لثام ... وهو «النّور» و «الكلام المبين»؟!
كلاّ، ليس على وجه القرآن لثام أو نقاب ... بل إنّنا بالتّفسير ينبغي أن نكشف اللثام عن روحنا، ونزيح الستار المسدول على بصيرتنا، فنستجلي بذلك مفاهيم القرآن ونعيش أجواءه.
من جهة اُخرى، ليس للقرآن بُعدٌ واحدٌ ... نعم، له بُعدٌ عام ميسّر للجميع، ينير الطريق، ويهدي البشريّة إلى سواء السبيل.
وله أيضاً أبعادٌ اُخرى للعلماء والمتفكّرين، لأُولئك الطامحين إلى مزيد من الإِرتواء ... وهؤلاء يجدون في القرآن ما يروي ظمأهم إلى الحقيقة، ويغرفون من بحره قدر آنيتهم ... وتتسع الآنية باتّساع دائرة السعي والجهد والإِخلاص.
هذه الأبعاد أطلقت عليها الأحاديث اسم «البطون» ... بطون القرآن ... وهي لا تتجلّى للجميع، أو بعبارة أدقّ لا تقوى كلُّ العيون على رؤيتها.
والتّفسير يمنح العيون قوة، ويقشع عن البصائر الحجب والأستار، ويمنحنا اللياقة لرؤية تلك الأبعاد بدرجة واُخرى.
وللقرآن أبعاد اُخرى تنجلي بمرور الزمان وتعاقب التجارب البشرية ونموّ الكفاءات الفكريّة، وهذا ما أشار إليه ابن عباس إذ قال: «القرآن يفسّره الزمان».
أضف إلى ذلك أنّ «القرآن يفسّر بعضه بعضاً»، وهذا لا يتنافى مع كونه نوراً وكلاماً مبيناً، لأنّه كلٌّ لا يتجزأ، وجميع لا تفرّد، يشكّل بمجموعه النور والكلام المبين.
متى بدأ تفسير القرآن؟


تفسير القرآن بالمعنى الحقيقي بدأ منذ عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل من بدء نزول الوحي إلاّ أنّه كـ «علم مدوّن» بدأ من زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)كما تجمع على ذلك أقوال المورّخين والمفسّرين، ورجال هذا العلم يصلون بسلسلة أسانيدهم إليه، ولا عجب في ذلك، فهو باب مدينة علم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ مئات التفاسير كتبت لحدّ الآن، وبلغات مختلفة، وبأساليب ومناهج متنوعة، منها الأدبي، والفلسفي، والأخلاقي، والروائي، والتأريخي، والعلمي، وكلّ واحد من المفسّرين تناول القرآن من زواية تخصّصه.
وفي هذا «بستان» مثمر ومزدهر ...، شُغف أحدهم بمناظره الشاعريّة الخلاّبة.
وآخر عكف على ما فيه من أشكاليات طبيعيّة ترتبط بتكوين النبات وهندسة الأزهار وعمل الجذور.
وثالث ألفت نظره الى المواد الغذائية المستفادة منه.
ورابع اتّجه إلى دارسة الخواصّ العلاجيّة في نباتاته.
وخامس اهتمّ بكشف أسرار الخلقة في عجائب ثماره اليانعة وأوراده الملوّنة.
وسادس راح يفكّر من أيّ أزهاره يستطيع استخراج أفضل العطور.
وسابع كالنحلة لا تفكّر إلاّ بامتصاص رحيق الورد لتهيئة العسل.
وهكذا روّاد طريق التّفسير القرآني، عكس كلٌّ منهم بما يملكه من مرآة خاصّة، مظهراً من مظاهر جمال القرآن وأسراره.
واضح أنّ كلّ هذه التفاسير في الوقت الذي تعتبر فيه تفسيراً للقرآن، إلاّ أنها ليست تفسيراً للقرآن، لأنّ كلّ واحد منها يميط اللثام عن بُعد من أبعاد القرآن لا عن كلّ الأبعاد، وحتى لوجمعناها لتجلّى من خلالها بعض أبعاد القرآن لا جميع أبعاده.
ذلك لأنّ القرآن كلامُ الله وفيض من علمه اللامتناهي، وكلامه مظهرٌ لعلمه، وعلمه مظهرٌ لذاته، وكلّها لا متناهية.
من هنا، لا ينبغي أن نتوقع استطاعة البشر إدراك جميع أبعاد القرآن، فالكوز لا يسع البحر.
طبعاً، ممّا لا شكّ فيه أنّنا نستطيع أن نغرف من هذا البحر الكبير ... الكبير جداً ... بقدر سعة آنية فكرنا، ومن هنا كان على العلماء فرض أن لا يتوانوا في كلّ عصر وزمان عن كشف مزيد من حقائق القرآن الكريم، وأن يبذلوا جهودهم المخلصة في هذا المجال ما استطاعوا، عليهم أن يستفيدوا ممّا خلّفه الأسلاف رضوان الله عليهم في هذا المجال، ولكن لا يجوز لهم أن يكتفوا به، فرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قال عن كتاب الله العزيز: «لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه».
خطر التّفسير بالرأي:


أخطر طريقة في تفسير القرآن هي أن يأتي المفسّر إلى كتاب الله العزيز معلّماً لا تلميذاً.
أي يأتي إليه ليفرض أفكاره على القرآن، وليعرض رؤاه وتصوراته المتولّدة من إفرازات البيئة والتخصّص العلمي، والاتّجاه المذهبيّ الخاص، والذّوق الشّخصي، باسم القرآن، وبشكل تفسير للقرآن، مثل هذا الشخص لا يتّخذ القرآن هادياً وإماماً، بل يتّخذه وسيلة لإثبات نظرياته وتبرير ذوقه وأفكاره.
هذا اللون من تفسير القرآن ـ أو قُل تفسير الأفكار الشخصية بالقرآن ـ راج بين جماعة، وليس وراءه إلاّ الإِنحراف ... الإنحراف عن طريق الله ... والإِنزلاق في متاهات الضّلال.
إنّه ليس بتفسير، وإنّما هو قسر وفرض وتحميل ... ليس باستفتاء، وإنّما إفتاء ... ليس بهداية، وإنّما هو الضلال ... إنّه مسخ وتفسير بالرأي، ونحن في منهجنا التّفسيري سوف لا ننحو ـ بإذن الله ـ هذا النحو، بل نتّجه بكلّ قلوبنا وأفكارنا نحو القرآن لنتتلمذ عليه، لا غير.

* * *


متطلّبات العصر:


لكلّ عصر خصائصه وضروراته ومتطلّباته، وهي تنطلق من الأوضاع الإِجتماعية والمتغيّرات الفكرية والمستجدّات الثقافية الطارئة على مفاصل الحياة في ذلك العصر.
ولكلّ عصر مشاكله وملابساته الناتجة عن تغيير المجتمعات والثقافات، وهو تغيير لا ينفك عن مسيرة المجتمع التأريخية.
المفكّر الفاعل في الحياة الإِجتماعية هو ذلك الذي فهم الضرورات والمتطلّبات، وأدرك المشاكل والملابسات ... وبعبارة اُخرى هو الذي استوعب مسائل عصره.
أمّا أُولئك الّذين لا يدركون هذه المسائل إطلاقاً، أو لا يتفاعلون معها بسبب عدم انتمائهم إلى عصرهم، أي بسبب فقدانهم عنصر «المعاصرة»، فهم الهامشيّون الذين لا يقدرون على التأثير ولا على المعالجة، بل يقفون دوماً متأسّفين ومتحسّرين وشاكين ومنتقدين، ويزداد تشاؤمهم ويأسهم باستمرار حتى يقعوا في طامّة «الإِنزواء الإِجتماعي».
ذلك لأنّهم ما استطاعوا أو ما أرادوا أن يستوعبوا احتياجات عصرهم ومشاكله.
هؤلاء يعيشون في ظلام مطبق، وبسبب عدم تفهّمهم لأسباب الحوادث وعللها ونتائجها، يفقدون أنفسهم أمام هجوم هذه الحوادث ويرتبكون ويخافون ويظلّون دون خطّة للمواجهة والدفاع، وبما أنّ مسيرتهم في الظلام فسوف تزلّ قدمهم في كلّ خطوة، وما أجمل ما قاله الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللّوابس».
رسالة العلماء في كلّ عصر أن يدركوا بوعي كامل هذه المسائل ... هذه الإِحتياجات، وهذا الفراغ الروحي والفكري والإِجتماعي، وأن يسعوا لمعالجتها بشكل صحيح كي لا يفسحوا المجال للاُطروحات المنحرفة أن تخترق الساحة وتملأ الفراغ وتقدّم الحلول الكاذبة.
من المسائل التي تلمّسناها بوضوح عطش الجيل الراهن لدرك المفاهيم الإِسلاميّة والمسائل الدينيّة ـ وخلافاً لما يردّده اليائسون والمتشائمون ـ إنّ هذا الجيل لا يتوق إلى الفهم فحسب، بل يتلهف إلى التطبيق العملي لهذه المفاهيم والمسائل، ولمس المعطيات الدّينيّة من خلال العمل بها.
من الواضح أنّ أمام هذا الجيل التوّاق مسائل غامضة ونقاط إبهام ومواضع استفهام كثيرة، والخطوة الاُولى لتلبية هذه الحاجات إعادة كتابة التراث العلمي والفكري الإِسلامي بلغة العصر، وتقديم كلّ هذه المفاهيم السامية عن طريق هذه اللغة إلى روح الجيل وعقله.
والخطوة الاُخرى استنباط الإِحتياجات والمتطلّبات الخاصة بهذا الزمان من مبادئ الإِسلام العامّة.
وهذا التّفسير دُوِّن على أساس هذين الهدفين.

* * *


الأمثل بين التفاسير:


واجهنا دوماً أسئلة وردت إلينا من مختلف الفئات وخاصّة الشباب المتعطّش إلى نبع القرآن عن التّفسير الأفضل.
هذه الأسئلة تنطوي ضمنياً على بحث عن تفسير يبيّن عظمة القرآن عن تحقيق لا تقليد، ويجيب على ما في الساحة من إحتياجات وتطلّعات وآلام وآمال ... تفسير نافع لكلّ الفئات، ويخلو من المصطلحات العلميّة المعقّدة.
في الواقع نحن نفتقر إلى مثل هذا التّفسير، فالأسلاف والمعاصرون رضوان الله عليهم كتبوا في حقل التّفسير كثيراً، لكنّ بعضها كتب قبل عدّة قرون و بأُسلوب خاصّ لا يستفيد منه إلاّ العلماء والأدباء، وبعضها مدوّن بمستوى علمي لا يدركه سوى الخواصّ، وبعضها تناول جانباً معيّناً من القرآن، وكأنّها باقة ورد اقتطفت من بستان مزدان، فهي قبس من هذا البستان، وليست البستان ... وهكذا.
من هنا لم نجد أمام هذه الأسئلة المتدفّقة علينا جواباً مقنعاً يرضي هذه الأرواح المتعطّشة التّواقة. فآلينا على أنفسنا أن نجيب على هذا السؤال عمليّاً، فالكلام لا يرضي السائلين.
لكنّنا وجدنا أنفسنا في خِضَمّ الأشغال المتزايدة من جهة، وأمام القرآن ... البحر الذي لا ساحل له ... من جهة اُخرى، فأنّى لنا أن نخوض عبابه دون عدّة ووقت واستعداد فكري، لذلك وقفنا على ضفاف هذا البحر الموّاج ننظر إليه بحسرة.
وفجأة هدانا الله إلى الطريق الحلّ، وانقدحت في الذهن فكرة العمل الجماعي، فكان أن اجتمع معنا على الطريق عشرة من الفضلاء المخلصين يالواعين كانوا حقّاً مصداق «عشرة كاملة» فبذلت المساعي الدائبة لي ونهاراً لتثمر خلال مدّة أقصر ممّا توقّعناها هذا الذي يراه القارئ الكريم.

* * *


ولكي لا تبقى نقطة غموض أمام القارئ الكريم نشرح باختصار منهج عملنا في هذا التّفسير.
يقُسّمت الآيات الكريمة أوّ في الفروع المختلفة بين الاخوة وبتوجيه موحّد، ودرسوا المصادر المختلفة في التّفسير لكبار المفسّرين من علماء الشيعة وأهل السنّة، مثل:
1 ـ مجمع البيان للشيخ الطبرسي. 2 ـ أنوار التنزيل للقاضي البيضاوي. 3 ـ الدرّ المنثور لجلال الدين السيوطي. 4 ـ البرهان للمحدّث البحراني. 5 ـ الميزان للعلاّمة الطباطبائي. 6 ـ المنار، تقرير دروس للشيخ محمّد عبده. 7 ـ في ضلال القرآن للأُستاذ سيد قطب. 8 ـ المراغي لأحمد مصطفى المراغي. 9 ـ مفاتيح الغيب للفخر الرازي. 10 ـ روح الجنان لأبي الفتوح الرازي. 11 ـ أسباب النّزول للواحدي. 12 ـ تفسير القرطبي لمحمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي. 13 ـ روح المعاني للعلاّمة شهاب الدين الآلوسي. 14 ـ نورالثقلين لعبد علي بن جمعة الحويزي. 15 ـ الصافي للملاّ محسن الفيض الكاشاني. 16 ـ التبيان للشيخ الطوسي. وتفاسير اُخرى ... .
ثمّ جمعنا من المفاهيم مايتناسب مع متطلّبات عصرنا وإحتياجاته، وفي الجلسات العامّة التي عقدناها يوميّاً أضفنا إلى كلّ ذلك المستجدات الضرورية من المعارف القرآنية، وبعد دراسات ومشاورات حول المباحث المختلفة، ومراجعة المصادر المتنوعة، أمليتُ تلك البحوث ودوّنها الاخوان بسرعة، ثمّ راجعنا الكتابات ودقّقنا فيها بصبر وسعة صدر، وأعددناها للطبع، وبعد الطبع أيضاً ـ وقبل مرحلة النشر ـ أُعيد النظر فيها مرة اُخرى.
وكانت نتيجة هذه الجهود ما يراه القارئ العزيز، ونرجو أن يكون بإذن الله نافعاً مفيداً للجميع.

* * *


خصائص هذا التّفسير:
لكي يرد القرّاء الأعزّاء إلى هذا التّفسير برؤية أوضح، وليجدوا فيه ما يريدونه بشكل أيسر، نذكر باختصار خصائص هذا التّفسير ومزاياه:
1 ـ لمّا كان القرآن «كتاب حياة» فإنّا لم نركّز ـ في التّفسير ـ على المسائل يالأدبية والعرفانيّة، بل بد من ذلك عالجنا المسائل الحيوية ـ الماديّة والمعنويّة ـ يوخاصّة المسائل الإِجتماعيّة، وسعينا إلى إشباعها بحثاً وتحلي، وخاصّة ما يرتبط من قريب بحياة الفرد والمجتمع.
2 ـ في ذيل كلّ آية تناولنا تحت عنوان «بحوث» المسائل المطروحة في الآية بشكل مستقل، كالربا، والرّق، وحقوق المرأة، وفلسفة الحج، وأسرار تحريم القمار، والخمر، ولحم الخنزير، ومسائل الجهاد الإِسلامي، وأمثالها من الموضوعات، كي يستغني القارئ عن مراجعة الكتب الاُخرى في هذه المجالات.
3 ـ عزفنا عن تناول البحوث ذات الفائدة القليلة، وأعطينا الأهميّة لمعاني الكلمات وأسباب النّزول ممّا له تأثير في الفهم الدقيق لمعنى الآية.
4 ـ عرضنا التساؤلات والشبهات والإعتراضات المطروحة حول أُصول الإِسلام وفروعه بمناسبة كلّ آية، وذكرنا الجواب عليها باختصار، مثل شبهة الآكل والمأكول، والمعراج، وتعدّد الزوجات، وسبب الاختلاف بين إرث المرأة والرجل، ودية المرأة والرجل، والحروف المقطّعة في القرآن، ونسخ الأحكام، والغزوات الإِسلاميّة، والإِختبارات الإِلهيّة، وعشرات المسائل الاُخرى، كي لا تبقى أيّة علامة استفهام عند مطالعة تفسير الآيات.
5 ـ أعرضنا عن استعمال المصطلحات العلمية المعقّدة التي تجعل الكتاب خاصّاً بفئة خاصّة من القرّاء، ولدى الضرورة تناولنا ذلك في هامش الكتاب من أجل استفادة المتخصّصين.
نسأل الله سبحانه أن يأخذ بأيدينا لما فيه رضاه، ويوفّق كلّ العالمين لخدمة كتابه العظيم.

* * *


الصّحوة الإِسلامية المعاصرة وزيادة الحاجة إلى تفسير القرآن:
تشهد أُمتنا الإِسلاميّة خلال هذه الأعوام صحوة إسلاميّة عامّة، تتمثل في رفض كلّ المستوردات الفكريّة، والعودة إلى الإِسلام، لإقامة حياتها على أساس أحكام الرسالة الخاتمة.
هذه الصّحوة تعود إلى فشل كلّ الأُطروحات الوضعية الكافرة في تحقيق ما لوّحت به من تقدّميّة وتحرّر وسعادة كما تعود أيضاً إلى العواطف الإِسلاميّة المتوغّلة في أعماق أبناء الاُمّة.
ويتحمّل العلماء الواعون في هذه المرحلة الحسّاسة مسؤوليّات كبرى تفرض عليهم أن يعمّقوا هذا التحرك الواعي بين صفوف الاُمّة ويُجذّروه ويؤصّلوه، كي تكون المسيرة على بصيرة في حركتها وعلى يقظة في اتّخاذ قراراتها، وعلى ثقة من أنّها تسلك الطريق نحو أهدافها الإِسلاميّة الكبرى دون زيغ أو انحراف أو التقاط.
وكتاب الله هدىً ونور، وفيه الإِطار العامّ للمسيرة، وفيه الزاد اللازم لمواصلة الطريق المستقيم نحو ربّ العالمين.
وأخيراً نشكر جهود العلماء والفضلاء الذين شاركونا في تأليف هذا التفسير الجليل:
1 ـ الشيخ محمّد رضا الآشتياني.
2 ـ الشيخ محمّد جعفر الإمامي.
3 ـ الشيخ داود الإلهامي.
4 ـ الشيخ أسد الله الإيماني
5 ـ الشيخ عبدالرسول الحسني.
6 ـ السيد حسن الشجاعي.
7 ـ السيد نور الله الطباطبائي.
8 ـ الشيخ محمود عبداللهي.
9 ـ الشيخ محسن القرائتي.
10 ـ الشيخ محمّد محمّدي الإشتهاردي
وكذلك نشكر الإخوة الافاضل الاستاذ محمد على آذرشب، الشّيخ محمدرضا آل صادق، الاستاذ خالد توفيق عيسى، السيّد محمّد الهاشمي، الاستاذ قصي هاشم فاخر، الاستاذ أسد مولولي، الشيخ مهدي الأنصاري والسيّد أحمد القبانچي والشّيخ هاشم الصالحي بمساهمتهم في تنقيح وإخراج هذا السفر الجليل وداموا مشكورين.
نسأل الله سبحانه أن نكون بهذا التّفسير قد ساهمنا في إعلان كلمة القرآن بشأن واقعنا، وبشأن مستقبلنا، وبشأن ما يجب أن نفعله للخروج من الواقع المؤلم الذي تعيش فيه أُمتنا.
ونسأله سبحانه أنّ يوفّق كلّ العالمين على إعلاء راية القرآن في العالم ويسدّد خطاهم وينصرهم على أعدائهم.
نسأله جلّ وعلا أن يوفّق العلماء والمفكّرين الواعين الملتزمين إلى قيادة هذا التحرك الإِسلامي المتصاعد في كلّ أرجاء العالم الإِسلامي، قيادة أصيلة قائمة على هدى القرآن والسنة.
ونتضرّع إليه أن يوفّقنا لإِكمال بقيّة أجزاء هذا التّفسير وأن يتقبّل من كلّ العاملين عليه في أي سبيل إنّه تعالى سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

ناصر مكارم الشيرازي

قم ـ الحوزة العلمية 1404 هـ.


سُورَةُ


الـحَمْـد


مَكّيّة


وعَدَدُ آياتِها سَبعُ آيات


بِسْمِ الله الرّحْمنِ الْرَحيمِ


سورة الحمد


خصائصها:
لهذه السّورة مكانة متميّزة بين سائر سور القرآن الكريم، وتتميز بالخصائص التالية: 1 ـ سياق السّورة

ـ تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها وسياقها، فسياق السور الاُخرى يعبّر عن كلام الله، وسياق هذه السّورة يعبّر عن كلام عباد الله. وبعبارة اُخرى: شاء الله في هذه السّورة أن يعلّم عباده طريقة خطابهم له ومناجاتهم إيّاه.
تبدأ هذه السّورة بحمد الله والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإِيمان بالمبدأ والمعاد «بالله ويوم القيامة» وتنتهي بالتضرع والطلب.
الإِنسان الواعي المتيقّظ يحسّ وهو يقرأ هذه السّورة بأنّه يعرج على أجنحة الملائكة، ويسمو في عالم الروح والمعنوية، ويدنو باستمرار من ربّ العالمين.
هذه السّورة تعبّر عن إتجاه الإِسلام في رفض الوسطاء بين الله والإِنسان ... هؤلاء الوسطاء الذين افتعلتهم المذاهب الزائفة المنحرفة، وتُعلّم البشر أن يرتبطوا بالله مباشرة دونما واسطة، فهذه السّورة عبارة عن تبلور هذا الارتباط المباشر والوثيق بين الله والإِنسان ... بين الخالق والمخلوق. فالانسان لا يرى في مضامين آيات السّورة سوى الله ... يخاطبه ... يناجيه ... يتضرّع إليه ... دونما يواسطة حتى وإن كانت الواسطة نبيّاً مرس أو ملكاً مقرّباً. ومن العجيب أن يحتلّ هذا الإِرتباط المستقيم بين الخالق والمخلوق مكان الصدارة في كتاب الله العزيز!.

* * *


2 ـ سورة الحمد أساس القرآن ـ فقد روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: «ألا أُعَلّمُكَ أَفْضَلَ سُورَة أَنْزَلَهَا اللهُ في كِتَابِهِ؟» قَالَ جَابرُ: بَلى بِأَبي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِيهَا. فَعَلَّمَهُ الْحَمْدَ أُمَّ الْكِتَابِ، وَقَالَ: هِي شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاء، إِلاّ السَّامَ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ»(1).
وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ في التَّوْرَاةِ، وَلاَ في الإنجيل ولا في الزّبُورِ وَلا في الْقُرْآنِ مِثْلَهَا، وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ»(2).
سبب أهمية هذه السّورة يتضح من محتواها، فهي في الحقيقة عرض لكل محتويات القرآن، جانب منها يختصّ بالتوحيد وصفات الله، وجانب آخر بالمعاد ويوم القيامة، وقسم منها يتحدّث عن الهداية والضلال باعتبارهما علامة التمييز بين المؤمن والكافر وفيها أيضاً إشارات إلى حاكمية الله المطلقة، وإلى مقام ربوبيّته، ونعمه اللامتناهية العامة والخاصة «الرحمانية والرحيمية»، وإلى مسألة العبادة والعبودية واختصاصهما بذات الله دون سواه.
إنّها تتضمّن في الواقع توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وتوحيد العبادة.
وبعبارة اُخرى: تتضمّن هذه السّورة مراحل الإِيمان الثلاث: الاعتقاد بالقلب، والإِقرار باللسان، والعمل بالأركان. ومن المعلوم أنّ لفظ «الأُمّ» يعني هنا الأساس والجذر.
ولعل ابن عباس ينطلق من هذا الفهم إذ يقول: «إن لكل شيء أساساً ... وأساس القرآن الفاتحة».
ومن هذا المنطلق أيضاً قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما روي عنه: «أَيُّمَا مُسْلِم قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أُعْطِيَ مِنَ الاَْجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلْثيِ الْقُرْآنِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الاَْجْرِ كَأَنَّمَا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَة»(3).
تعبير «ثلثي القرآن»، ربّما كان إشارة إلى أنّ القرآن ينطوي على ثلاثة أقسام: الدّعوة إلى الله، والإِخبار بيوم الحساب، والفرائض والأحكام. وسورة الحمد تتضمن القسمين الأوَّلَين. وتعبير «أُمّ القرآن» إشارة إلى القرآن يتلخّص من وجهة نظر اُخرى في (الإِيمان والعمل) وقد جمعا في سورة الحمد.

* * *


3 ـ سورة الحمد شرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ القرآن الكريم يتحدّث عن سورة الحمد باعتبارها هبة إلهية لرسوله الكريم، ويقرنها بكل القرآن إذ يقول:
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)(4).
فالقرآن بعظمته يقف هنا إلى جنب سورة الحمد، ولأهمية هذه السّورة أيضاً أنّها نزلت مرّتين.
نفس هذا المضمون رواه أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنَّ اللهَ تعالى قَالَ لِي يا محمّد وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فأفرَدَ الإِمْتنَانَ عَلَيَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهَا بِإزَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أشْرَفُ مَا فِي كُنُوزِ الْعَرْشِ...»(5).

* * *


4 ـ التّأكيد على تلاوة هذه السّورة

ـ ممّا تقدم نفهم سبب تأكيد السّنة بمصادرها الشيعية والسنّية على تلاوة هذه السّورة ـ فتلاوتها تبعث الروح والإِيمان والصفاء في النفوس، وتقرّب العبد من الله، وتقوّي إرادته، وتزيد اندفاعه نحو تقديم المزيد من العطاء في سبيل الله، وتبعده عن ارتكاب الذنوب والإِنحرافات. ولذلك كانت أُمّ الكتاب صاعقة على رأس إبليس كما ورد عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «رَنَّ إِبْلِيسُ أَرْبَعَ رَنّات، أَوَّلُهُنَّ يَوْمَ لُعِنَ، وَحِينَ أُهْبِطَ إِلَى الاِْرْضِ، وَحِينَ بُعِثَ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَحيِنَ نَزَلَتْ أُمُّ الْكِتَابِ»(6).

* * *


محتوى السّورة:


كلّ واحدة من الآيات السبع في هذه السّورة تشير إلى حقيقة هامّة:
(بِسْمِ اللهِ ...) بداية لكلّ عمل، وتعلّمنا الاستمداد من الباري تعالى لدى البدء بأي عمل.
(اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) درس في عودة كلّ نعمة ورعاية إلى الله تعالى، وإلفات إلى حقيقة إنطلاق كلّ هذه المواهب من ذات الله تعالى.
(اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تبيّن هذه الحقيقة، وهي: إنّ خلق الله ورعايته وحاكميته تقوم على أساس الرّحمة والرّحمانية، وهذا المبدأ يشكّل المحور الأساس لنظام رعاية العالم.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) استحضار للمعاد ويوم الجزاء، ولحاكمية الله على تلك المحكمة الكبرى.
(إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعيِنُ) تبيّن التوحيد في العبادة، والتوحيد في الاستعانة بالأسباب.
(إِهْدِنَا الْصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) توضّح حاجة العباد ورغبتهم الشديدة للهداية، وتؤكّد حقيقة أن كل ألوان الهداية إنما تصدر منه تعالى.
وآخر آية من هذه السّورة ترسم معالم (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وتميّز بين صراط الذين أنعم الله عليهم، وصراط الذين ضلّوا والذين استحقّوا غضب الله عليهم.
ويمكن تقسيم هذه السّورة، من منظار آخر إلى قسمين: قسم يختصّ بحمد الله والثناء عليه، وقسم يتضمّن حاجات العبد.
وإلى هذا التقسيم يشير الحديث الشريف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَيْني وَبَيْنَ عَبْدِي، فِنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأَلَ.
إِذَا قَالَ الْعَبْدُ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: بَدَأ عَبدِي باسْمِي وَحَقَّ عَلَيَّ أنْ اُتَمِّمَ لَهُ اُمُورَهُ وَاُبارِكَ لَهُ فِي أحوَالِهِ.
فَإذا قَالَ: (الحَمدُ لِلّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) قَالَ اللّهُ جَلَّ جلالُهُ: حَمَدَنِي عَبدِي وَعَلِمَ أَنَّ النِعَمَ الَّتِي لَهُ مِنْ عِنْدِي، وَأَنَّ اْلبَلايَا الَّتِي دَفَعْتُ عَنْهُ فبِتَطَوُّلِي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أُضِيفُ لَهُ إِلى نِعَمِ الدُّنْيَا نِعَمَ الآخِرَةِ، وَاَدْفَعُ عَنْهُ بَلاَيَا الآخِرَةِ كَمَا دَفَعْتُ عَنْهُ بَلاَيَا الدُّنْيَا.
وَإِذَا قَالَ: (اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: شَهِدَ لِي عَبْدِي أَنِّي اَلرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، أُشْهِدُكُمْ لأُوَفِّرَنَّ مِنْ رَحْمَتِي حَظَّهُ وَلأُجْزِلَنَّ مِنْ عَطَائِي نَصِيبَهُ.
فَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدّين) قَالَ الله تَعالى: أُشهِدُكُمْ كَمَا اعْتَرَفَ بِأَنِّي أَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ لأُسَهِّلَنَّ يَوْمَ الْحِسابِ حِسَابَهُ، وَلأَتَقَبَّلَنَّ حَسَنَاتِهِ، وَلأَتَجَاوَزَنَّ عَنْ سَيِّئاتِهِ.
فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، إِيَّايَ يَعْبُدُ أُشْهِدُكُمْ لأُثِيبَنَّهُ عَلَى عِبَادَتِهِ ثَوَاباً يَغْبِطُهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ في عِبَادَتِهِ لي.
فَإِذَا قَالَ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ اللهُ تَعالى: بِيَ اسْتَعَانَ عَبْدِي، وَإلَيَّ إِلْتَجَأَ، أُشْهِدُكُمْ لأُعِينَنَّهُ عَلى أُمْرِهِ، ولأُغيثَنَّهُ فِي شَدَائِدِهِ وَلآخُذَنَّ بِيَدِهِ يَوْمَ نَوَائِبِهِ.
فَإِذَا قَالَ: (إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيم) إلى آخر السّورة قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَقَد اسْتَجَبْتُ لِعَبْدِي وَأَعْطَيتُهُ مَا أَمَّلَ وَآمَنْتُهُ مِمَّا مِنْهُ وَجِلَ»(7).

* * *


لماذا سمّيت فاتحة الكتاب؟


«فَاتِحَةُ الْكِتَاب» اسم اتخذته هذه السّورة في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يبدو من الأخبار والأحاديث المنقولة عن النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذه المسألة تفتح نافذة على مسألة مهمّة من المسائل الإِسلامية، وتلقي الضوء على قضية جمع القرآن، وتوضّح أنّ القرآن جُمع بالشكل الذي عليه الآن في زمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، خلافاً لما قيل بشأن جمع القرآن في عصر الخلفاء، فسورة الحمد ليست أول سورة في ترتيب النّزول حتى تسمّى بهذا الاسم ولا يوجد دليل آخرلذلك، وتسميتها بفاتحة الكتاب يرشدنا إلى أنّ القرآن قد جمع في زمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الترتيب الذي هو عليه الآن.
وثمّة أدلّة اُخرى تؤيّد حقيقة جمع القرآن بالترتيب الذي بأيدينا اليوم في عصر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمره.
روى عليّ بن إبراهيم، عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، أنّ رَسُولَ الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ لِعَلّي(عليه السلام): «يَا عَلِيُّ، إنَّ الْقُرْآنَ خَلْف فِرَاشِي فِي الصُّحُفِ وَالْحَرِيرِ وَالْقَرَاطِيَس، فَخُذُوهُ وَأجْمِعُوهُ وَلاَ تُضَيِّعُوهُ كَمَا ضَيَّعَتِ الْيَهُودُ التَّوْرَاةَ، وانْطَلَقَ عَلِيٌّ(عليه السلام) فَجَمَعَهُ فِي ثَوْب أَصْفَرَ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَيْهِ»(8).
ويروي (الخوارزمي) في المناقب عن (علي بن رباح) أنّ علي بن أبي طالب وأُبيّ بن كعب جمعا القرآن في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى (الحاكم) في (المستدرك) عن (زيد بن ثابت) قال: «كُنّا نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ».
ويقول العالم الجليل السيد المرتضى(رحمه الله): «إنَّ الْقُرْآنَ كَانَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) مَجْمُوعاً مُؤَلَّفاً عَلى مَا هُوَ عَلَيْهِ الآن»(9).
ويروي الطبراني وابن عساكر عن الشعبي أنّ القرآن جمعه ستة من الأنصار في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(10).
ويروي قتادة أنّه سأل أنس عن جمع القرآن في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ هُمْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْب، وَمَعَاذٌ، وَزيْدُ بْنُ ثَابِت، وَأبُو زَيْد(11) و هناك روايات اُخرى يطول ذكرها.
على أيّ حال، اتّخاذ سورة الحمد اسم (فاتحة الكتاب) دليل واضح على إثبات هذه المسألة، إضافة إلى الأدلة الاُخرى المستفيضة في مصادر الشيعة والسنّة.

* * *


سؤال:
وهنا يثارُ سؤال حول المشهور بين بعض العلماء بشأن جمع القرآن بعد عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الجواب نقول: ما روي بشأن جمع القرآن على يد الامام عليّ(عليه السلام) بعد عصر الرّسول، لم يكن القرآن وحده، بل مجموعة تتضمّن القرآن وتفسيره وأسباب نزول الآيات، وما شابه ذلك ممّا يحتاجه الفرد لفهم كلام الله العزيز.
وأمّا ما فعله عثمان في هذا الصدد، فتدلّ القرائن أنّه أقدم على كتابة قرآن واحد عليه علامات التلاوة والإِعجام، منعاً للإِختلاف في القراءات، إذ لم يكن يالتنقيط معمو به حتى ذلك الوقت.
وما نراه من إصرار لدى جماعة على عدم جمع القرآن في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى نسبة هذا الأمر للخليفة عثمان أو للخليفة الأول أو الثاني، فإنّما يعود إلى ظروف وملابسات وعصبيات تأريخية لسنا بصددها الآن.
وإذا رجعنا إلى استقصاء طبيعة الأشياء في مجال جمع القرآن، ألفينا أنّه من غير المعقول أن يترك النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المهمّة الكبيرة، بينما نجده يهتمّ بدقائق الأُمور المرتبطة بالرسالة.
أليس القرآن دستور الإِسلام، وكتاب هداية البشرية، وأساس عقائد الإِسلام وأحكامه؟
أليس من الممكن أن يتعرّض القرآن ـ إن لم يجمع ـ في عصر الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الضياع، وإلى الإِختلاف فيه بين المسلمين؟!
(حديث الثقلين) المروي في المصادر الشيعية والسنّية، حيث أوصى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بوديعته: كتاب الله وعترته، يؤكّد أيضاً أن القرآن كان قد جمع في مجموعة واحدة في عصر الرّسول الأعظم.
أمّا اختلاف الرّوايات في عدد الصحابة الذين جمعوا القرآن خلال عصر النّبي فلا يشكّل عقبة في البحث، ومن الممكن أنّ تتّجه كلّ رواية إلى ذكر عدد منهم.

* * *


نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 1
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست