responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 18

الآيتان



وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ لَوْيَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَـنِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ واصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ __وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لاَِنْفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَآ تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ__

التّفسير


حسد وعناد:
كثير من أهل الكتاب وخاصة اليهود لم يكتفوا بإعراضهم عن الدين المبين، بل كانوا يودّون أن يرتد المسلمون عن دينهم، ولم يكن ذلك إلاّ عن حسد يستعر في أنفسهم، تقول الآية: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ).
وأمام هذه المواقف الدنيئة والنظرات الضيقة والآمال التافهة والنوايا الخبيثة التي تحملها الفئة الكافرة، يحدد الإِسلام موقف الجماعة المسلمة، على أساس من رحابة الصدر وسعة الاُفق وبعد النظرة (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بَأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).
هذا الإمر الإِلهي نزل حيث كان المسلمون بحاجة إلى بناء المجتمع الإِسلامي. وفي تلك الظروف يوجب على المسلمين أن يلجأوا إلى سلاح العفو والصفح حتى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.
كثير من المفسرين قالوا إن «أمر الله» في هذه الآية يعني «أمر الجهاد»، ولعل الجماعة المسلمة لم تكن على استعداد شامل لخوض معركة دامية حين نزلت هذه الآية، ولذلك قيل إن آيات الجهاد نسخت هذه الآية.
ولعل التعبير بالنسخ في هذا الموضع ليس بصحيح، لأن الآية تحمل في عبارتها الإِطار الذي يحدّها بفترة زمنية محدودة.
الآية التالية تأمر المسلمين بحكمين هامّين: إقامة الصلاة باعتبارها رمز إرتباط الإِنسان بالله، وإيتاء الزكاة وهي أيضاً رمز التكافل بين أبناء الاُمّة المسلمة، وكلاهما ضروريان لتحقيق الإِنتصار على العدو: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَأَتُوا الزَّكَاةَ).
ثم تؤكّد الآية على خلود العمل الصالح وبقائه: (وَمَا تُقَدِّمُوا لاَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ). والله سبحانه عالم بالسرائر، ويعلم دوافع الأعمال، ولا يضيع عنده أجر العاملين (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

* * *


بحوث


1 ـ «اصفحوا» من «صفح»، وصفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر، والأمر بالصفح هو الأمر بالإِعراض، لكنّ عطفها على «فَاعْفُوا» يفهم أنه أمر بالإِعراض لا عن جفاء، بل عن عفو وسماح.
وهذا التعبير يوحي أيضاً أن المسلمين كانت لهم قدرة المقابلة وعدم الصفح، لكن الأمر بالعفو والصفح يستهدف اتمام الحجّة على العدوّ، كي يهتدي من هو قابل للإِصلاح. بعبارة اُخرى: ممارسة القوّة ليست المرحلة الاُولى في مواجهة العدوّ، بل العفو والصفح، فإن لم يُجد نفعاً فالسيف.
2 ـ عبارة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) قد تشير إلى أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على أعدائهم بطرق غيبية، ولكن طبيعة حياة البشر والكون قائمة على أن الأعمال لا تتم إلاّ بالتدريج وبعد توفّر المقدمات.
3 ـ عبارة (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) قد تكون إشارة إلى توغل هؤلاء الحسدة في ذاتياتهم، فالحسد قد يتخذ أحياناً طابع الدين والرسالة، لكن حسد هؤلاء لم يكن له حتى هذا الظاهر، بل كان ضيقاً شخصياً(382).
ويحتمل أيضاً أن تكون إشارة إلى أن الحسد متجذّر في نفوسهم.

* * *


الآيتان



وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَـرَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـْنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ__ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ__

التّفسير


احتكار الجنّة!
القرآن في هاتين الآيتين يشير إلى ادعاء آخر من الإِدعاءات الفارغة لمجموعة من اليهود والنصارى، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارى)(383)ي، ثم يجيبهم جواباً رادعاً قائ (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) ثم تخاطب الآية رسول الله وتقول: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
بعد التأكيد على أن ادعاء هؤلاء فارغ لا قيمة له، وأنه مجرد أُمنية تخامر أذهانهم، يطرح القرآن المعيار الأساس لدخول الجنّة على شكل قانون عام (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ). ومن هنا فالمشمولون بهذا القانون هم في ظلال رحمة الله (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
بعبارة موجزة: الجنّة ومرضاة الله والسعادة الخالدة ليست حكراً على طائفة معينة، بل هي نصيب كل من يتوفر فيه شرطان: الأوّل: التسليم التام لله تعالى، أو الإِنصياع لأوامره سبحانه، وعدم التفريق بين هذه الأوامر، أي عدم ترك ذلك القسم من الأوامر الذي لا ينسجم مع المصالح الفردية الذاتية. الثّاني: وهو ما يترتب على التسليم في المرحلة الاُولى، من القيام بالأعمال الصالحة والإِحسان في جميع المجالات.
والقرآن، بطرحه هذه الحقيقة، يرفض بشكل تام مسألة التعصب العنصري يويكسر طوق احتكار فئة معينة للسعادة، ويضع ضمنياً معيار الفوز متمث بالإِيمان، والعمل الصالح. * * *

بحوث


1 ـ «الأماني» جمع «أُمنية» وهي الرجاء الذي لا يتحقق للإِنسان.
والآية تطرح أُمنية واحدة من أُمنيات أهل الكتاب، ولكن هذه الأُمنية ـ أي أمنية احتكار الجنّة ـ هي مصدر أمان اُخرى، وبعبارة اُخرى: أُمنيتهم لها فروع وإمتدادات، ولذلك عبر عنها القرآن بلفظ (أماني).
2 ـ نسبت الآية الكريمة التسليم إلى (الوجه): (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ...)، وذلك يعود إلى أن الإِنسان حين يستسلم لشيء، فأوضح مظهر لهذا الإِستسلام هو أن يولي وجهه تجاه ذلك الشيء. ومن المتحمل أيضاً أن «الوجه» يعني في الآية الذات، ويكون المعنى أن هؤلاء أسلموا بكل وجودهم لأوامر الله.
3 ـ الآيتان المذكورتان تعلّمان المسلمين عدم الإِنجراف وراء الإِدعاءات الباطلة غير القائمة على دليل، وتعلمهم أن يطلبوا الدليل والبرهان من صاحب الإِدعاء، وبذلك يسدّ القرآن الطريق أمام الإِنجراف الأعمى وراء التقليد، ويجعل التفكير المنطقي سائداً في المجتمع.
4 ـ ذكر عبارة (وَهُوَ مُحْسِنٌ) بعد طرح مسألة التسليم، إشارة إلى أن الإِحسان بالمعنى الواسع للكلمة لا يتحقق إلاّ برسوخ الإِيمان في النفوس. كما تفهم العبارة أن صفة الإِحسان ليست طارئة في نفوس المؤمنين، بل هي خصلة نافذة في أعماق هؤلاء.
ونفي الخوف والحزن عن أتباع خط التوحيد سببه واضح، لأن هؤلاء يخافون الله دون سواه، بينما المشركون يخشون من كل ما يهدد مصالحهم الدنيوية التافهة، بل يخشون أموراً خرافية موهومة تقلقهم وتقضّ مضاجعهم.

* * *


الآية



وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـرَى عَلَى شَىْء وَقَالَتِ النَّصَـرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْء وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـبَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ__

سبب النّزول


قال ابن عباس أنه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)آتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شَيء، وجحد بنبوّة عيسى وكفر بالإِنجيل. فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شيء، وجحد بنبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله هذه الآية.(384)

التّفسير


تعصّب وتناقض
فيما مرّ بنا من آيات رأينا جانباً من الإِدعاءات الفارغة التي أطلقها جمع من اليهود والنصارى، ورأينا أن هذه الإِدعاءات الفارغة تستتبعها روح احتكارية ضيقة، ثم وقوع في التناقضات.
تقول الآية: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارى عَلى شَيْء وَقَالَتِ النَّصَارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْء).
عبارة «لَيْسَتْ عَلى شَيْء» تعني أن أفراد هذا الدين لا مكانة لهم ولا منزلة لدى الله سبحانه، أو تعني أن هذا الدين لا وزن له ولا قيمة.
ثم تضيف الآية: (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ).
أي إنّ هؤلاء لديهم الكتاب الذي يستطيع أن ينير لهم الطريق في هذه المسائل، ومع ذلك ينطلقون في أحكامهم من التعصب واللجاج والعناد!!
ثم تقول الآية: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).
وهذه الآية الكريمة تجعل أقوال هذه المجموعة من أهل الكتاب المتعصبين شبيهة بأقوال الجهلة من الوثنيين. بعبارة اُخرى: هذه الآية تقرر أن المصدر الأساس للتعصب هو الجهل والبعد عن العلم، لأن الجاهل مطوّق بمحيطه المحدود، لا يقبل غيره، بل هو ملتصق بما ملأ ذهنه منذ صغره وإن كان خرافياً، ويرفض ما سواه.
ثم اختتمت الآية بالتأكيد على أن الحقائق إن خفيت في هذه الدنيا، فهي لا تخفى في الآخرة حيث تنكشف كل الأوراق: (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيَما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
وهذه الآية فيها أيضاً تثبيت للقلوب وطمأنة للنفوس، فهي تؤكد للمسلمين أن الطوائف التي تجهزت لمحاربتهم لا تتميز بالإِنسجام والوحدة، بل إن مجاميعها يكفّر بعضهم بعضاً، والذي يجمع بينهم على الظاهر هو الجهل، وبالتالي التعصب الناشيء عن هذا الجهل.

* * *


الآية



وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ__

سبب النّزول


روي عن ابن عباس إنّه الآية نزلت في «فطلوس» الرومي وجنده النصارى الذين حاربوا بني إسرائيل، وأحرقوا التوراة، وأسروا الأبناء وهدموا بيت المقدس.
وعن ابن عباس أيضاً أنها نزلت في الروم، غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه حتى أظهر الله المسلمين عليهم.
وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أنها نزلت في قريش حين حالوا دون دخول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مدينة مكة والمسجد الحرام.
وقيل إنها نزلت في مشركي مكة ممن هدموا الأماكن التي اتخذها المسلمون للصلاة في مكّة، بعد هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منها(385).
ولا يمنع أن يكون نزول الآية بسبب كل هذه الأحداث، وبذلك يكون كل واحد من أسباب النّزول المذكورة قد تناول بُعداً واحداً من أبعاد المسألة.

التّفسير


أظلم النّاس
أسباب النّزول توضّح أن الآية تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين، مع أن الآيات السابقة تتحدث أكثر ما تتحدث عن اليهود وأحياناً عن النصارى.
على أي حال «اليهود» بوسوستهم بشأن مسألة تغيير القبلة، سعوا إلى أن يتجه المسلمون في صلاتهم نحو بيت المقدس، ليتفوقوا بذلك على المسلمين، وليحطوا من مكانة الكعبة(386).
و«مشركو مكة» بمنعهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين زيارة الكعبة سعوا عملياً في هدم هذا البناء الإِلهي.
و«النصارى» باستيلائهم على بيت المقدس والعبث فيه على ما ذكر ابن عباس سعوا في تخريبه.
القرآن يقول لهؤلاء جميعاً ولكل من يسلك طريقاً مشابهاً لهؤلاء: (وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرَابِهَا).
القرآن الكريم أطلق على مثل هذا العمل اسم «الظلم الكبير»، وعلى العاملين اسم «أظلم النّاس» وأيّ ظلم أكبر من تخريب قاعدة التوحيد، وصدّ النّاس عن ذكر الله؟!
ثم تقول الآية: (أُوَلئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ).
أي إِن المسلمين والموحدين ينبغي أن يكونوا على درجة من القوّة والمقاومة بحيث لا يستطيع الظلمة أن يمدوا أيديهم إلى هذه الأماكن المقدسة، ولا يستطيعون أن يدخلوها جهرة بدون خوف أو خشية.
ومن المحتمل أيضاً أن الآية تقول: إن الظلمة لن يستطيعوا أبداً أن ينجحوا في الإِستيلاء على هذه المراكز العبادية، بل إنهم سوف لا يستطيعون في المستقبل أن يدخلوا هذه المساجد إلاّ وهم خائفون مذعورون، تماماً كالمصير الذي لاقاه مشركو مكة بشأن المسجد الحرام.
والآية تبين بعد ذلك العقاب الذي ينتظر هؤلاء الظلمة ممن يريد أن يفصل بين الله وعباده: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاْخِرَةِ عَظِيمٌ).

* * *


بحثان


1 ـ تخريب المساجد
مفهوم الآية المذكورة واسع ـ دون شك ـ غير محدود بزمان أو مكان معينين. إنها مثل سائر الآيات التي نزلت في ظروف خاصة لكن حكمها ثابت على مرّ العصور والدهور. فكل الذين يسعون بنوع من الأنواع في تخريب المساجد مشمولون بهذا الخزي والعذاب العظيم.
من الضروري أن نؤكد أن منع الذكر في مساجد الله والسعي في خرابها، لا يقتصر على هدم بنائها، بل إن كل عمل يؤدي إلى القضاء على دور المسجد في المجتمع مشمول بهذه الآية.
وسوف نرى في الآية (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ...)(387) أن المقصود من العمران ـ استناداً إلى الأحاديث والروايات الصريحة ـ ليس هو تشييد البناء فحسب، بل الحضور فيها واحياؤها بالذكر، هو نوع من العمران، بل أهم أنواع العمران.
وفي النقطة المقابلة ـ إذن ـ يكون كل عمل يبعد النّاس عن المساجد، ويبعد المساجد عن دورها ظلماً كبيراً.
ومن المؤسف أن عصرنا يشهد ظهور مجموعة جاهلة متعصبة متعنتة بعيدة عن المنطق، تطلق على نفسها اسم الوهابيّة تسعى في تخريب المساجد بحجة إحياء التوحيد!!
هؤلاء عمدوا إلى تخريب المساجد المبنيّة على قبور الأئمة والصالحين، والتي كانت مركزاً للذكر والدعاء والإِرتباط بالله وبخط الصالحين من آل الله. ومن الغريب أنهم يمارسون هذه الأعمال تحت عنوان مكافحة الشرك مرتكبين بذلك أفظع الكبائر.
ولو افترضنا حدوث ما يخالف الشرع في بعض هذه الأماكن الدينية من قبل الجهلة، فيجب الوقوف بوجه مثل هذه الأعمال، لا أن تتجه الجهود إلى تخريب هذه القواعد التوحيدية، فهذا عمل يشبه عمل المشركين الجاهليين.
2 ـ أكبر الظّلم

ومسألة اُخرى تلفت النظر في هذه الآية، هي وصفها مثل هؤلاء الأفراد بأنهم أظلم النّاس. وهم كذلك، لأن تعطيل المساجد وتخريبها ومنع ذكر الله فيها، يؤدي إلى ابتعاد النّاس عن الدين، وبالتالي إلى عواقب سيئة ومأساة اجتماعية عظيمة.
وصفة «الأظلم» ذكرها القرآن الكريم في مواضع اُخرى للحكاية عن كبائر اُخرى، لكن كل هذه الذنوب تعود إلى أصل واحد هو صدّ النّاس عن طريق التوحيد.
وسيأتي شرح ذلك أكثر في المجلد الرابع من هذا التّفسير عند الحديث عن الآية 21 من سورة الأنعام.

* * *


الآية



وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمـَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ__

سبب النّزول


اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية:
روي عن ابن عباس أن الآية ترتبط بتغيير القبلة، فعندما تغيرت قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة بدأ اليهود يشككون قائلين: وهل من الممكن أن تتغير الكعبة؟ فنزلت الآية ترد عليهم وتقول إن المشرق والمغرب لله.
وروي أيضاً: أَنَّ الاية نَزَلْتْ فِي الصَّلاَةِ الْمُسْتَحبَّةِ يَسْتَطِيعُ الاِْنْسَانُ أَنْ يُؤَدِّيهَا عَلى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمـَا اتَّجَهَتِ الرَّاحِلَةُ، دُونَ اشْتِرَاطِ الاِْتِّجَاهِ نَحوَ الْقِبْلَةِ.
وروي عن جابر أَنَّ الرَّسُولَ(صلى الله عليه وآله وسلم) بَعَثَ جَمَاعَةً فِي غَزْوَة، فَجَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَعْرِفُوا اتِّجَاهَ الْقِبْلَةِ، فَصَلَّتْ كُلُّ مَجْمُوعَة صَوْبَ جهَة، وَبَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ سَأَلْوا النَّبيَّ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الاْيَةُ الْكَرِيمَةُ (هذا الحكم له شروط طبعاً تذكره الكتب الفقهية).
ومن الممكن أن تكون أسباب النّزول المذكورة كلها ثابتة للآية، أضف الى ذلك أن كل آية في القرآن لا تنحصر بأسباب نزولها، بل ينبغي أن يؤخذ مفهومها بشكل حكم عام، وربما استخرج منهاأحكام متعددة.

التّفسير


أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ:
الآية السابقة تحدثت عن الظالمين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، وهذه الآية تواصل موضوع الآية السابقة فتقول: (وِللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَايْنَمـَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).
تؤكد هذه الآية أن منع النّاس عن إحياء المساجد لا يقطع الطريق أمام عبودية الله، فشرق هذا العالم وغربه لله سبحانه، وأينما تولوا وجوهكم فالله موجود. وتغيير القبلة تمّ لظروف خاصة، وليس له علاقة بمكان وجود الله، فالله سبحانه وتعالى لا يحده مكان، ولذلك تقول الآية بعد ذلك: (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
واضح أن المقصود بالمشرق والمغرب في الآية ليس هو الجهتين يالخاصتين، بل هو كناية عن كل الجهات. كأن يقول أحد مث: أعداء علي(عليه السلام)سعوا للتغطية على فضائله، لكن فضائله انتشرت في شرق العالم وغربه، (أي في كل العالم). ولعل سبب شيوع استعمال الشرق والغرب في الكلام أن الإنسان ييتعرف أو على هاتين الجهتين، ثم يعرف بقية الجهات عن طريق هاتين الجهتين.
وفي آية اُخرى يقول القرآن الكريم: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مِشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا)(388)

* * *


بحوث


1 ـ فلسفة القبلة
الله موجود في كل جهة ومكان، فلماذا وجب الإِتجاه نحو القبلة في الصلاة؟
واضح أن الإِتجاه نحو القبلة لا يعني تحديد ذات الباري تعالى في مكان وفي جهة، بل إن الإِنسان موجود مادي، ولابدّ أن يصلي باتجاه معين، ثم إن ضرورة الوحدة والتنسيق في صفوف المسلمين تفرض اتجاههم في الصلاة نحو قبلة واحدة، وإلاّ ساد الهرج والفوضى، وتفرّقت الصفوف وتشتتت.
أضف إلى ذلك أن الكعبة التي جعلت قبلة للمسلمين بقعة مقدسة ومن أقدم قواعد التوحيد، والإِتجاه نحوها يوقظ في النفوس ذكريات المسيرة التوحيدة.
2 ـ عبارة (وَجْهُ اللهِ) لا تعني هذا الوجه المتعارف، بل تعني ذات الله تعالى.
3 ـ استدلت الروايات بهذه الآية على صحة الصلاة إلى غير القبلة لسهو أو اضطرار، وعلى صحة الصلاة على ظهر الراحلة.
(لمزيد من التوضيح راجع وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، باب القبلة).

* * *


نام کتاب : تفسير الأمثل نویسنده : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    جلد : 1  صفحه : 18
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست