من الوجوب و الحرمة مجهول و الاستصحاب إنّما يجري بالنسبة إلى خصوص نوع التكليف المتعلق بالفعل، فهو من هذه الجهة كأصالة البراءة لا يكون مؤدّاه مضادّا للمعلوم بالإجمال الّذي هو جنس الإلزام، و كذا من جهة المخالفة العملية، فانّه أيضا لا يلزم من جريانه في كل من الوجوب و الحرمة مخالفة عملية، لأنّ المكلف لا يخلو من الفعل و الترك.
نعم: لما كان الاستصحاب من الأصول المتكفلة للتنزيل- كما سيأتي بيانه في محله- فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه و العلم الإجماليّ، فانّ البناء على عدم وجوب الفعل و عدم حرمته واقعا- كما هو مفاد الاستصحابين- لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته [1] و سيأتي في محله: أنّ الأصول التنزيلية لا تجري في أطراف العلم الإجماليّ مطلقا، سواء لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم.
و إن شئت قلت: إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافى الموافقة الالتزامية، فانّ التديّن و التصديق بأنّ للّه تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا إمّا الوجوب أو الحرمة لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب و الحرمة واقعا.
فتحصّل: أنّ شيئا من الأصول العملية العقلية و الشرعية لا تجري في باب دوران الأمر بين المحذورين، يعنى لا موقع لجعل وظيفة عقلية أو شرعية فيه، بل المكلف بحسب خلقته التكوينية مخيّر بين الفعل و الترك، و هذا التخيير ليس بحكم شرعي أو عقلي واقعي أو ظاهري.
و ما ورد من التخيير في باب تعارض الأمارات إن كان المراد منه التخيير في المسألة الأصولية- و هو التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة و طريقا إلى الواقع في مقام الاستنباط- فهو أجنبيّ عما نحن فيه، و إن كان المراد منه التخيير في المسألة الفقهية- أي التخيير في العمل- فيكون من التخيير العقلي التكويني لا تعبدي شرعي إذا كان التعارض على وجه يوجب دوران الأمر بين
______________________________ [1] أقول: و لقد دفعنا هذه الشبهة أيضا في الجزء التالي من هذا الكتاب، فراجع هناك.