وطول الأمل له سببان: أحدهما الجهل، والآخر حب
الدنيا. فإنه إذا أنس بها وشهواتها ولذاتها وعلائقها ثقلت على قلبه مفارقتها، فامتنع
قلبه عن الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً رفعه من نفسه
والإنسان مشغوف[1597]
بالأماني الباطلة، فتمنى نفسه أبداً ما يوافق مراده وهو البقاء في الدنيا، فلا يزال
يتوهمه ويقرره في نفسه ويقدر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء
ودواب وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه معكوفاً[1598]
عليها ويلهو عن ذكر الموت.
وأصل هذه الأماني كلها حب الدنيا، وأما الأمل فإن الإنسان قد يعوّل[1599] على شبابه فيستبعد
قرب الموت مع الشباب، وليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا لكانوا أقل من
عشر أهل البلد، وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ يموت ألف
صبي وشاب.
وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة ولا
يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً ففجاء المرض غير بعيد، وكل مرض فإنما يقع
فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً والموت ليس له وقت مخصوص من شاب وشيب وكهولة،
ومن صيف وشتاء وخريف وليل ونهار، لعدم اشتغاله بالاستعداد واستشعاره.
[1597]
الشغاف ككتاب: غلاف القلب وهي جلدة دونه كالحجاب. ويقال: هو حبة القلب، وهي: علقة
سوداء في صميمه. وشغف قلبه الهوى شغفا من باب نفع والاسم الشغف بفتحتين. وفلان
مشغوف بفلانة، أي: ذهب به الحب إلى أقصى المذاهب.
مجمع البحرين، الطريحي: 2/521، باب ما أوله الشين،
مادة "شغف".
[1598] عكف بعكف ويعكف عكفا وعكوفا، وهو: إقبالك على الشيء
لا تصرف عنه وجهك. كتاب العين، الفراهيدي: 1/205، مادة "عكف".