حرمتني» الأسفار الأربعة « [1] من نيل وصال المعشوق، ومازادتني» الفتوحات « [2] فتحاً ولا» فصوص الحكم « [3] حكمة، فما بال غير هذه الكتب؟
و لما بلغت المشيب ابتليت بكل خطوة منه بالاستدارج حتى اشتعل الرأس شيباً وأخذت منى الكهولة مأخذاً:» ومنكُم مَن يُردُ الى أرذلِ العمرِ لكيلا يعلمَ بعدَ علمٍ شيئاً « [4] وبما أنّ ابنتي تفصلها أميال عن هذه المرحلة ولم تذق طعمها لذا تتوقع مني نظم الشعر وكتابة النثر، ولا تعلم أنّى لست بشاعر ولاكاتب.
و أنت يا ابنتي العزيزة- حيث تطلبين النهاية ولم تبدأي بعد- لو فرطتي بمرحلة الشباب على هذا المنوال من اللهو والتسلية أو أكثر من هذا فسوف يفوتك ركب العشاق الى الله، وسوف تجلبين على نفسك عبأ ثقيلًا من التأسف والندم. فاستمعى لهذا العجوز البائس الذى انحنى ظهره من هذا الحمل الثقيل، ولا تكتفي بهذه المصطلحات التي هي عبارة عن فخ إبليس، و تحري عنه جل وعلا؛ مرحلة الشباب واللهو واللعب سريعة الانقضاء جداً وقد طويتها جميعاً وأحاق بي الآن عذاب جهنم، ولم يتركني الشيطان الباطني لحظة واحدة حتى يوجه ضربته النهائية- والعياذ بالله- لكنّ اليأس من رحمة الله الواسعة من أعظم الكبائر [5]، ونسأل الله أن لايبتلي العصاة بهذا الذنب العظيم.
يقال أنّ الحجاج بن يوسف الثقفي- أحد مجرمي التاريخ- قال أواخر عمره: إلهي إغفر لي، برغم علمي بأنّ الجميع يقولون لاتغفر لي، فقال الشافعي [6] لما سمع ذلك: إن قال ذاك فمن المحتمل أن يكون هذا الشقي قد وفق للتوبة [7].
و أنت يا ابنتي العزيزة لاتغتري برحمة الله الواسعة فتغفلي عن المعشوق الحقيقى، ولا تيأسى فتخسري الدنيا والآخرة.
[1] إشارة الى كتاب «االحكمة المتعالية فى الأسفار العقلية الأربعة» تأليف صدر الدين محمد بن ابراهيم الشيرازى الملقب بصدر المتألهين والمعروف بملاصدرا، توفي سنة 1050 ه-. ق.
[2] إشارة الى كتاب «الفتوحات المكية» تأليف أبى عبدالله بن محمد بن على المعروف بمحى الدين بن العربي، توفي سنة 638 ه-. ق.
[3] إشارة الى كتاب «فصوص الحكم» تأليف محي الدين بن العربي.
[5] قال أبو عبدالله (ع): «إنّمن الكبائر ... اليأس من روح الله ...» وقال: «الكبائر القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ...»، أصول الكافى، ج 2، ص 278 وص 280، ح 4 و 10.
[6] محمد بن ادريس الشافعي أحد أئمة المذاهب السنية الأربعة.