[3] مسألة القضاء و القدر من أقدم الأبحاث في تاريخ الإسلام،
اشتغل به المسلمون في أوائل انتشار الدعوة الإسلامية و تصادفها مع أنظار الباحثين
من علماء الملل و الأديان، و لما كان تعلق القضاء الحتم بالحوادث و من بينها
بالافعال الاختيارية من الإنسان يوجب بحسب الانظار العامية-- الساذجة ارتفاع تأثير
الإرادة في الفعل و كون الإنسان مجبورا في فعله غير مختار، تشعب جماعة الباحثين( و
هم قليل البضاعة في العلم يومئذ) على فرقتين:
إحداهما و هم المجبرة أثبتوا تعلق الإرادة الحتمية الإلهيّة
بالافعال كسائر الأشياء و هو القدر و قالوا بكون الإنسان مجبورا غير مختار في
أفعاله و الافعال مخلوقة للّه تعالى و كذا أفعال سائر الأسباب التكوينية مخلوقة
له.
و ثانيتهما و هم المفوضة أثبتوا اختيارية الافعال و نفوا تعلق
الإرادة الإلهيّة بالافعال الانسانية فاستنتجوا كونها مخلوقة للإنسان، ثمّ فرع كل
من الطائفتين على قولهم فروعا و لم يزالوا على ذلك حتى تراكمت هناك أقوال و آراء
يشمئز منها العقل السليم، كارتفاع العلية بين الأشياء و خلق المعاصى و الإرادة
الجزافية و وجود الواسطة بين النفي و الاثبات و كون العالم غير محتاج في بقائه الى
الصانع الى غير ذلك من هوساتهم.
و الأصل في جميع ذلك عدم تفقههم في فهم تعلق الإرادة الإلهيّة
بالافعال و غيرها و البحث فيه طويل الديل لا يسعه المقام على ضيقه، غير أنا نوضح
المطلب بمثل نضربه و نشير به إلى خطأ الفرقتين و الصواب الذي غفلوا عنه فلنفرض
إنسانا اوتى سعة من المال و المنال و الضياع و الدار و العبيد و الإماء ثمّ اختار
واحدا من عبيده و زوجه احدى جواريه و اعطاه من الدار و الأثاث ما يرفع حوائجه
المنزلية و من المال و ما يسترزق به في حياته بالكسب و التعمير، فان قلنا: إن هذا
الاعطاء لا يؤثر في تملك العبد شيئا و المولى هو المالك و ملكه بجميع ما أعطاه قبل
الاعطاء و بعده على السواء كان ذلك قول المجبرة و ان قلنا: ان العبد صار مالكا
وحيدا بعد الاعطاء و بطل به ملك المولى و انما الامر الى العبد يفعل ما يشاء في
ملكه كان ذلك قول المفوضة و ان قلنا كما هو الحق ان العبد يتملك ما وهبه له المولى
في ظرف ملك المولى و في طوله لا في عرضه فالمولى هو المالك الاصلى و الذي للعبد
ملك في ملك، كما ان الكتابة فعل اختيارى منسوب الى يد الإنسان و الى نفس الإنسان،
بحيث لا يبطل احدى النسبتين الأخرى، كان ذلك القول الحق الذي يشير عليه السلام
إليه في هذا الخبر.
فقوله عليه السلام: لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب الى
قوله: و أعطى على القليل كثيرا اه اشارة الى نفى مذهب الجبر بمحاذير ذكرها( ع) و
معناها واضح و قوله: و لم يعص مغلوبا اه.
اشارة الى نفى مذهب التفويض بمحاذيرها اللازمة فان الإنسان لو
كان خالقا لفعله، كان مخالفته لما كلفه اللّه من الفعل غلبة منه على اللّه سبحانه
و قوله: و لم يطع مكرها اه. نفى للجبر و مقابلة للجملة السابقة فلو كان الفعل
مخلوقا للّه و هو الفاعل فقد أكره العبد على الإطاعة و قوله: و لم يملك مفوضا اه.
بالبناء للفاعل و صيغة اسم الفاعل نفى للتفويض أي لم يملك اللّه ما ملكه العبد من
الفعل بتفويض الامر إليه و ابطال ملك نفسه و قوله عليه السلام:« و لم يخلق
السماوات و الأرض-- و ما بينهما باطلا و لم يبعث النبيين مبشرين و منذرين عبثا»
الجملتان يحتمل أن يشار بهما الى نفى كل من الجبر و التفويض فان الافعال إذا كانت
مخلوقة للّه قائمة به سبحانه كان المعاد الذي هو غاية الخلقة أمرا باطلا لبطلان
الثواب و العقاب إلى آخر ما ذكره( ع) و كان بعث الرسل لاقامة الحجّة و تقدمة
القيامة عبثا و لا معنى لان يقيم تعالى حجة على فعل نفسه و إذا كانت مخلوقة
للإنسان و لا تأثير للّه سبحانه فيها لزم أن تكون الخلقة لغاية لا يملك اللّه
تعالى منه شيئا و هو الباطل و بعث الرسل لغرض الهداية التي لا يملكها الا الإنسان
ليس للّه فيها شأن و هو العبث.
و اعلم أن البحث عن القضاء و القدر كانت في أول الامر مسألة
واحدة ثمّ تحولت ثلاث مسائل أصلية الأولى: مسألة القضاء و هو تعلق الإرادة
الإلهيّة الحمية بكل شيء و الاخبار تقضى فيها بالاثبات كما مرّ في الأبواب
السابقة الثانية: مسألة القدر و هو ثبوت تأثير ما له تعالى في الافعال و الاخبار
تدلّ فيها أيضا على الاثبات، الثالثة مسألة الجبر و التفويض و الاخبار تشير فيها
الى نفى كلا القولين و تثبت قولا ثالثا و هو الامر بين الامرين، لا ملكا للّه فقط
من غير ملك الإنسان و لا بالعكس، بل ملكا في طول ملك و سلطنة في ظرف سلطنة
و اعلم أيضا أن تسمية هؤلاء بالقدرية مأخوذة ممّا صح عن
النبيّ صلّى اللّه عليه و آله« أن القدرية مجوس هذه الأمة الحديث» فأخذت المجبرة
تسمى المفوضة بالقدرية لانهم ينكرون القدر و يتكلمون عليها و المفوضة تسمى المجبرة
بالقدرية لانهم يثبتون القدر و الذي يتحصل من أخبار أئمة أهل البيت( ع) أنهم يسمون
كلتا الفرقتين بالقدرية و يطبقون الحديث النبوى عليهما، أما المجبرة فلانهم ينسبون
الخير و الشر و الطاعة و المعصية جميعا الى غير الإنسان، كما أن المجوس قائلون
بكون فاعل الخير و الشر جميعا غير الإنسان و قوله( ع) في هذا الخبر مبنى على هذا
النظر، و أمّا المفوضة فلانهم قائلون بخالقين في العالم هما الإنسان بالنسبة الى
أفعاله و اللّه سبحانه بالنسبة الى غيرها، كما أن المجوس قائلون بإله الخير و إله
الشر، و قوله عليه السلام في الروايات التالية: لا جبر و لا قدر اه ناظر الى هذا
الاعتبار.( الطباطبائى)
نام کتاب : الكافي- ط الاسلامية نویسنده : الشيخ الكليني جلد : 1 صفحه : 155