وانما قال صلى الله
عليه وآله ذلك لان الجاهلية كانوا يرون البكاء عليهم والنوح ويأمرون به ويؤكدون
الوصية بفعله ، وهذا مشهور عنهم. قال طرفة بن العبد : فان مت فانعيني بما أنا أهله
* وشقي عليه الجيب يا ابنة معبد وقال بشر بن ابي حازم : فمن يك سائلا عن بيت بشر *
فان له بجنب الردم بابا ثوى في ملحد لابد منه * كفى بالموت نابا واغترابا رهين بلى
وكل فتى سيبلى * فاذري الدمع وانتحبي انتحابا وثانيها : ان العرب كانوا يبكون
موتاهم ويذكرون غاراتهم وقتل اعدائهم ، وما كانوا يسلبونه من الاموال ويرونه من
الاحوال ، فيعدون ما هو معاص في الحقيقة بعذاب الميت بها وإن كانوا يجعلون ذلك من
مفاخره ومناقبه ، فذكر انكم تبكونهم بما يعذبون به. وثالثها : ان يكون المعنى ان
الله تعالى إذا علم الميت ببكاء أهله واعزته عليه تألم لذلك ، فكان عذابا له.
والعذاب ليس بجار مجرى العقاب الذي لا يكون إلا على ذنب متقدم ، بل قد يستعمل
كثيرا بمعنى الالم والضرر. ألا ترى ان القائل قد يقول لمن ابتدأه بضرر أو ألم : قد
عذبتني بكذا وكذا وآذيتني ، كما يقول اضررت بي وآلمتني. وإنما لم يستعمل العقاب
حقيقة في الآلام المبتدئة ، من حيث كان اشتقاق لفظة العقاب من المعاقبة التي لابد
من تقدم سبب لها وليس هذا في العذاب. ورابعها : ان يكون أراد بالميت من حضره الموت
ودنا منه. فقد يسمى بذلك القوة المقاربة على سبيل المجاز. فكأنه صلى الله عليه
وآله اراد أن من حضره الموت يتأذى ببكاء اهله عنده ، ويضعف نفسه ، فيكون ذلك
كالعذاب له. وكل هذا بين بحمد الله ومنه. في قول سيدنا محمد صلى الله عليه وآله إن
قلوب بني آدم كلها بين اصبعين : (مسألة) : فإن قيل : فما معنى الخبر المروي عن
عبدالله بن عمر أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول : إن قلوب بني آدم
كلها بين اصبعين من اصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله
عليه وآله عند ذلك : اللهم مصرف القلوب اصرف