وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقٌ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أسْفَلُكُمْ أَعْلاكُمْ، وَ أَعْلاكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كانُوا قَصَّرُوا، وَ لَيُقَصّرَنَّ سَبَّاقُونَ كانُوا سَبَقُوا وَ اللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لَا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَ لَقَدْ نُبّئْتُ بِهذَا الْمَقَامِ وَ هذَا الْيَوْمِ. أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَ خُلِعَتُ لُجُمُهَا، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ أَلا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْها أَهْلُها وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ. حَقٌّ وَ باطِلٌ، وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَ لَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلِرَبَّما وَ لَعَلَّ، وَ لقَلَّما أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ!
قال السيد الشريف: و أَقُولُ: إِنَّ فِي هذَا الْكَلَامِ الْادْنَى مِنْ مَوَاقِعِ الْإِحْسَانِ مَالَا تَبْلُغُهُ مَوَاقِعُ الْاسْتِحْسَانِ، وَ إِنَّ حَظَّ الْعَجَبِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ حَظّ الْعُجْبِ بِهِ، وَ فِيهِ- مَعَ الْحَالِ الَّتي وَصَفْنَا- زَوَائدُ مِنَ الْفَصَاحَةِ لَا يَقُومُ بِها لِسَانٌ وَ لَا يَطَّلِعُ فَجَّهَا إِنْسَانٌ وَ لَا يَعْرِفُ مَا أَقُولُ إِلَّا مَنْ ضَرَبَ فِي هذِهِ الصّنَاعَةِ بِحَقٍّ، وَ جَرَى فِيها عَلَى عِرْقٍ. «وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ».
و من هذه الخطبة وفيها يقسم الناس الى ثلاثة:
شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا، وَ طَالِبٌ بَطِيٌ رَجَا، وَ مُقَصّرٌ فِي النَّارِ هَوَى. الَيمِينُ وَ الشّمالُ مَضَلَّةٌ، وَ الطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْها بَاقي الْكِتَابِ وَ آثارُ النُّبُوَّةِ، وَ مِنْها مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَ إِلَيْها مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ. هَلَكَ مَنِ ادَّعَى، وَ خَابَ مَنِ افْتَرى. مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقّ هَلَكَ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ. لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ، وَ لَا يَظْمأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ. فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَ أصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَ التَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ، وَ لَا يَحْمَدُ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّهُ، وَ لَا يَلُمْ لَائِمٌ إِلَّا نَفْسَهُ.