وَ تَسْتَثْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَ تَرْتَعُونَ فِيَما لَفَظُوا، وَ تَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا؛ وَ إِنَّما الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ.
أولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ؛ الَّذينَ كانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ، وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً. سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ، وَ ضِماراً لَايُوجَدُونَ، لَايُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ، وَ لَايَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ.
وَ لَايَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ، وَ لَايَأْذَنُونَ لِلْقَواصِفِ. غُيَّباً لَايُنْتَظَرُونَ، وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ، وَ إِنَّما كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وَ آلافاً فَافْتَرَقُوا، وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ، وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ، وَ لكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً، وَ بِالْحَرَكاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ. جِيرَانٌ لَايَتَأَنَّسُونَ، وَ أَحِبَّاءُ لَايَتَزَاوَرُونَ بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ، وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ، لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً، وَ لَالِنَهَارٍ مَسَاءً.
أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آياتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا فَكِلْتَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ، فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ. فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ، وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ.
لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ، وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا: كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّواضِرُ، وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ،