العبرة بالماضين
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَصَوْلَاتِهِ، وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ، وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ، وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ.
فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ. وَ لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ. فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ، وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ. وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَ كانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ. قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالَمخْمَصَةِ، وَ ابْتَلَاهُمْ بِالَمجْهَدَةِ، وَ امْتَحَنَهُمْ بِالَمخَاوِفِ، وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ. فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَواقِعِ الْفِتْنَةِ، وَ الاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الاقْتِدَارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى: «أَيَحْسَبُونَ أنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَ بَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ». فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ.
تواضع الانبياء
وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونَ عليهما السلام عَلَى فِرْعَوْنَ، وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ- إِنْ أَسْلَمَ- بَقَاءَ مُلْكِهِ، وَ دَوَامَ عِزِّهِ؛ فَقَالَ:
«أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ، وَ بَقَاءَالْمُلْكِ؛ وَ هُمَا بِما تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ، فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ،