عن الناس أجمعين ،
ولكن الله جل ثناؤه جعل رسله أولي قوة في عزائم نياتهم ، وضعفة فيما ترى الأعين
من حالاتهم ، من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه ، وخصاصة تملأ الأسماع والأبصار
أذاؤه ، ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك تمد نحوه أعناق
الرجال ، ويشد إليه عقد الرحال ، لكان أهون على الخلق في الاختبار ، وأبعد لهم من
الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيات مشتركة
، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه
والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام إليه أمورا له خاصة ، لا تشوبها من
غيرها شائبة. وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل ، ألا
ترون أن الله جل ثناؤه اختبر الأولين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار
لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما
ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا ، وأقل نتائق [١] الدنيا مدرا ، وأضيق بطون الأودية معاشا ، وأغلظ محال
المسلمين مياها ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة [٢] ، وعيون وشلة [٣] ، وقرى منقطعة ، وأثر من مواضع قطر السماء داثر ، ليس يزكو
به خف ولا ظلف ولا حافر ، ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة
لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز [٤] قفار متصلة ،
وجزائر بحار منقطعة ، ومهاوي فجاج عميقة ، حتى
[١] تائق : جمع
نتيقة ، فعيلة بمعنى مفعولة ، من النتق ، وهو أن تقلع الشيء فترفعه من مكانه
لترمي به ، هذا هو الأصل. وأراد بها هنا البلاد ، لرفع بنائها وشهرتها في موضعها ـ
النهاية لابن الأثير ٥ : ١٣.
[٢] دمثة : الدمث ،
وهو الأرض السهلة الرخوة ، والرمل الذي ليس بمتلبّد ـ النهاية لابن الأثير ٢ :
١٣٢.
[٣] وشلة : الوشل :
الماء القليل ، وقد وشل يشل وشلانا ـ النهاية لابن الأثير ٥ : ١٨٩.
[٤] المفاوز :
المفاز والمفازة : البرّيّة القفر ، والجمع : المفاوز ، سميت بذلك لأنها مهلكة ـ النهاية
لابن الأثير ٣ : ٤٧٨.